فصل: تفسير الآيات رقم (1- 2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 98‏]‏

‏{‏اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏93‏)‏ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ‏(‏94‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ‏(‏95‏)‏ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ‏(‏97‏)‏ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏98‏)‏‏}‏

ولما أقر أعينهم بعد اجتماع شملهم بإزالة ما يخشونه دنيا وأخرى، بقي ما يخص أباهم من ذلك، فكأنه وقع السؤال عنه فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏اذهبوا بقميصي‏}‏ ولما كان قوله هذا ربما أوقع في أفهامهم قميصه الذي سلبوه إياه، احترز عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏هذا فألقوه‏}‏ أي عقب وصولكم ‏{‏على وجه أبي يأت‏}‏ أي يرجع إلى ما كان ‏{‏بصيراً‏}‏ أو يأت إلى حالة كونه بصيراً، فإنه إذا رد إليه بصره وعلم مكاني لم يصبر عن القصد إليّ لما عنده من وفور المحبة وعظيم الشوق، وكونه قميصاً من ملابس يوسف المعتادة أدخل في الغرابة وأدل على الكرامة؛ والقميص ألصق الثياب بالجسم، فإظهار الكرامة به أدل على كمال دين صاحبه وعراقته في أمور الإيمان، وهو يؤول في المنام بالدين، وذلك أدخل في كمال السرور ليعقوب عليه الصلاة والسلام ‏{‏وأتوني‏}‏ أي بأبي وأنتم ‏{‏بأهلكم‏}‏ أي مصاحبين لهم ‏{‏أجمعين *‏}‏ لا يتخلف منهم أحد، فرجعوا بالقميص لهذا القصد، قيل‏:‏ كان يهوذا هو الذي حمل قميصه لما لطخوه بالدم، فقال‏:‏ لا يحمل هذا غيري لأفرحه كما أحزنته، فحمله وهو حافٍ حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما ثمانون فرسخاً ‏{‏ولما فصلت العير‏}‏ من العريش آخر بلاد مصر إلى بلاد الشام ‏{‏قال أبوهم‏}‏ لولد ولده ومن حوله من أهله، مؤكداً لعلمه أنهم ينكرون قوله‏:‏ ‏{‏إني لأجد‏}‏ أي لأقول‏:‏ إني لأجد ‏{‏ريح يوسف‏}‏ وصدهم عن مواجهته بالإنكار بقوله‏:‏ ‏{‏لولا أن تفندون *‏}‏ أي لقلت غير مستح ولا متوقف، لأن التفنيد لا يمنع الوجدان، وهو كما تقول لصاحبك‏:‏ لولا أن تنسبني إلى الخفة لقلت كذا، أي إني قائل به مع علمي بأنك لا توافقني عليه، «وفصل» هنا لازم يقال‏:‏ فصل من البلد يفصل فصولاً، والفصل‏:‏ القطع بين الشيئين بحاجز، والوجدان‏:‏ ظهور من جهة إدراك يستحيل معه انتفاء الشيء، والريح‏:‏ عرض يدرك بحاسة الأنف أي الشم، والتفنيد‏:‏ تضعيف الرأي بالنسبة إلى الفند، وهو الخوف وإنكار العقل من هرم، يقال‏:‏ شيخ مفند، ولا يقال‏:‏ عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فيفندها كبرها؛ ثم استأنف حكاية جوابهم فقال‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي السامعون له ما ظنه بهم، مقسمين بما دل على تعجبهم، وهو ‏{‏تالله‏}‏ أي الملك الأعظم، وأكدوا لمعرفتهم أنه ينكر كلامهم وكذا كل من يعرف كماله ‏{‏إنك لفي ضلالك‏}‏ أي بحيث صار ظرفاً لك ‏{‏القديم *‏}‏ أي خطئك في ظن حياة يوسف؛ قال الرماني‏:‏ والضلال‏:‏ الذهاب عن جهة الصواب‏.‏ فصحح الله قوله وحقق وجدانه، وعجلوا إليه بشيراً فأسرع بعد الفصول، ولذلك عبر بالفاء في ‏{‏فلما‏}‏ وزيدت ‏{‏أن‏}‏ لتأكيد مجيئه على تلك الحال وزيادتها قياس مطرد ‏{‏جاء البشير‏}‏ وهو يهوذا بذلك، معه القميص ‏{‏ألقاه‏}‏ أي القميص حين وصل إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام من غير فاصل ما بين أول المجيء وبينه كما أفادته زيادة «أن» لتأكيد ما تفيده «لما» من وقوع الفصل الثاني وهو هنا الإلقاء عقب الأول وترتبه عليه وهو هنا المجيء ‏{‏على وجهه‏}‏ أي يعقوب عليه الصلاة والسلام ‏{‏فارتد‏}‏ من حينه ‏{‏بصيراً‏}‏ والارتداد‏:‏ انقلاب الشيء إلى حال كان عليها، فالتفت الخاطر إلى حاله مع فنده، فأخبر تعالى عن ذلك بقوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي يعقوب عليه الصلاة والسلام ‏{‏ألم أقل لكم‏}‏‏:‏ إني أجد ريحه؛ ثم علل هذا التقرير بقوله مؤكداً لأن قولهم قول من ينكر‏:‏ ‏{‏إني أعلم من الله‏}‏ أي المختص بصفات الكمال ‏{‏ما لا تعلمون *‏}‏ لما خصني به تعالى من أنواع المواهب، وهو عام لأخبار يوسف عليه الصلاة والسلام وغيرها، وهو من التحديث بنعمة الله‏.‏

ولما كان ذلك تشوفت النفس إلى علم ما يقع بينه وبين أولاده في ذلك، فدفع عنها هذا العناء بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا ياأبانا‏}‏ منادين بالأداة التي تدل على الاهتمام العظيم بما بعدها لما له من عظيم الوقع‏:‏ ‏{‏استغفر‏}‏ أي اطلب من الله أن يغفر ‏{‏لنا ذنوبنا‏}‏ ورد كل ضمير من هذه الضمائر إلى صاحبه في غاية الوضوح، فلذلك لم يصرح بصاحبه‏.‏

ولما سألوه الاستغفار لذنوبهم، عللوه بالاعتراف بالذنب، لأن الاعتراف شرط التوبة- كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» فقالوا مؤكدين تحقيقاً للإخلاص في التوبة‏:‏ ‏{‏إنا كنا خاطئين *‏}‏ أي متعمدين للإثم بما ارتكبنا في أمر يوسف علية الصلاة والسلام؛ ثم حكى جوابه بقوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي أبوهم عليه السلام مؤكداً لكلامه‏:‏ ‏{‏سوف أستغفر‏}‏ أي أطلب أن يغفر ‏{‏لكم ربي‏}‏ أي الذي لم يزل يحسن إليّ ويربيني أحسن تربية، فهو الجدير بأن يغفر لبني حتى لا يفرق بيني وبينهم في دار البقاء؛ والربوبية‏:‏ ملك هو أتم الملك على الإطلاق، وهو ملك الله تعالى لإنشاء الأنفس باختراعها وتصريفها أتم التصريف من الإيجاد والإعدام والتقليب من حال إلى حال في جميع الأمور من غير تعب؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنه هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الغفور الرحيم *‏}‏ كل ذلك تسكيناً لقلوبهم وتصحيحاً لرجائهم ليقوى أملهم، فيكون تعالى عند ظنهم بتحقيق الإجابة وتنجيزاً لطلبه؛ ولعله عبر ب «سوف» لتقديم هاتين الجملتين على المسألة لما ذكرته من الأغراض، وقيل‏:‏ لأنه أخر الدعاء إلى صلاة الليل، وقيل‏:‏ إلى ليلة الجمعة؛ وقيل‏:‏ يؤخذ منها أن طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منه إلى الشيوخ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏

ولما وقع ما ذكر، وكان قد أرسل معهم من الدواب والمال والآلات ما يتجهزون به، أقبلوا على التجهيز كما أمرهم يوسف عليه الصلاة والسلام، ثم قدموا مصر وهم اثنان وسبعون نفساً من الذكور والإناث، وكأنهم أسرعوا في ذلك فلذلك قال‏:‏ ‏{‏فلما‏}‏ بالفاء ‏{‏دخلوا على يوسف‏}‏ في المكان الذي تلقاهم إليه في وجوه أهل مصر وضرب به مضاربه ‏{‏آوى إليه أبويه‏}‏ إكراماً لهما بما يتميزان به، قيل‏:‏ هو المعانقة، والظاهر أنها أمه حقيقة، وبه قال الحسن وابن إسحاق- كما نقله الرماني وأبو حيان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها خالته، وغلب الأب في هذه التثنية لذكورته كما غلب ما هو مفرد في أصله على المضاف في العمرين ‏{‏وقال‏}‏ مكرماً للكل ‏{‏ادخلوا مصر‏}‏ أي البلد المعروف، وأتى بالشرط للأمن لا للدخول، فقال‏:‏ ‏{‏إن شاء الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ‏{‏آمنين *‏}‏ من جميع ما ينوب حتى مما فرطتموه في حقي وحق أخي‏.‏

ولما ذكر الأمن الذي هو ملاك العافية التي بها لذة العيش، أتبعه الرفعة التي بها كمال النعيم، فقال‏:‏ ‏{‏ورفع أبويه‏}‏ أي بعدما استقرت بهم الدار بدخول مصر مستويين ‏{‏على العرش‏}‏ أي السرير الرفيع؛ قال الرماني‏:‏ أصله الرفع‏.‏ ‏{‏وخروا‏}‏ أي انحطوا ‏{‏له سجداً‏}‏ الأبوان والإخوة تحقيقاً لرؤياه ممن هو غالب على كل أمر، والسجود- وأصله‏:‏ الخضوع والتذلل- كان مباحاً في تلك الأزمنة ‏{‏وقال‏}‏ أي يوسف عليه الصلاة والسلام ‏{‏ياأبت‏}‏ ملذذاً له بالخطاب بالأبوة ‏{‏هذا‏}‏ أي الذي وقع من السجود ‏{‏تأويل رؤياي‏}‏ التي رأيتها، ودل على قصر الزمن الذي رآها فيه بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏قد جعلها ربي‏}‏ أي الذي رباني بما أوصلني إليها ‏{‏حقاً‏}‏ أي بمطابقة الواقع لتأويلها، وتأويل ما أخبرتني به أنت تحقق أيضاً من اجتبائي وتعليمي وإتمام النعمة عليّ؛ والتأويل‏:‏ تفسير بما يؤول إليه معنى الكلام؛ وعن سلمان رضي الله عنه أن ما بين تأويلها ورؤياها أربعون سنة‏.‏ ‏{‏وقد أحسن‏}‏ أي أوقع إحسانه ‏{‏بي‏}‏ تصديقاً لما بشرتني به من إتمام النعمة، وتعدية ‏{‏أحسن‏}‏ بالباء أدل على القرب من المحسن من التعدية ب «إلى» وعبر بقوله‏:‏ ‏{‏إذا أخرجني من السجن‏}‏ معرضاً عن لفظ «الجب» حذراً من إيحاش إخوته مع أن اللفظ يحتمله احتمالاً خفياً ‏{‏وجاء بكم‏}‏ وقيل‏:‏ إنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش، يتنقلون في المياه والمناجع، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏من البدو‏}‏ من أطراف بادية فلسطين، وذلك من أكبر النعم كما ورد في الحديث «من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة» والبدو‏:‏ بسيط من الأرض يرى فيه الشخص من بعيد، وأصله من الظهور، وأنس إخوته أيضاً بقوله مثبتاً الجار لأن مجيئهم في بعض أزمان البعد‏:‏ ‏{‏من بعد أن نزغ‏}‏ عبر بالماضي ليفهم أنه انقضى ‏{‏الشيطان‏}‏ أي أفسد البعيد المحترق بوسوسته التي هي كالنخس ‏{‏بيني وبين إخوتي‏}‏ حيث قسم النزع بينه وبينهم ولم يفضل أحداً من الفريقين فيه، ولم يثبت الجار إشارة إلى عموم الإفساد للبينين، كل ذلك إشارة إلى تحقق ما بشر به يعقوب عليه الصلاة والسلام من إتمام النعمة وكمال العلم والحكمة؛ ثم علل الإحسان إليهم أجمعين بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربي‏}‏ أي المحسن إليّ على وجوه فيها خفاء ‏{‏لطيف‏}‏- أي يعلم دقائق المصالح وغوامضها، ثم يسلك- في إيصالها إلى المستصلح- سبيل الرفق دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك فهو اللطيف- قاله الرازي في اللوامع‏.‏

وهو سبحانه فاعل اللطف في تدبيره ورحمته ‏{‏لما يشاء‏}‏ لا يعسرعليه أمر؛ ثم علل هذه العلة بقوله‏:‏ ‏{‏إنه هو‏}‏ أي وحده ‏{‏العليم‏}‏ أي البليغ العلم للدقائق والجلائل ‏{‏الحكيم *‏}‏ أي البليغ الإتقان لما يصنعه طبق ما ختم به يعقوب عليه الصلاة والسلام بشراه في أول السورة، أي هو منفرد بالاتصاف بذلك لا يدانيه أحد في علم ليتعرض إلى أبطال ما يقيمه من الأسباب، ولا في حكمة ليتوقع الخلل في شيء منها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

ولما ذكر هاتين الصفتين، تذكر ما وقع له بهما من الأسباب، فغلب عليه مقام الشهود وازدادت نفسه عن الدنيا عزوفاً، فقال مخاطباً‏:‏ ‏{‏رب قد آتيتني‏}‏ وافتتح ب «قد» لأن الحال حال توقع السامع لشرح مآل الرؤيا ‏{‏من الملك‏}‏ أي بعضه بعد بعدي منه جداً، وهو معنى روحه تمام القدرة ‏{‏وعلمتني‏}‏ وقصر دعواه تواضعاً بالإتيان بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من تأويل الأحاديث‏}‏ طبق ما بشرني به أبي وأخبرت به أنت من التمكين والتعليم قبل قولك، والله غالب على أمره؛ ثم ناداه بوصف جامع للعلم والحكمة فقال‏:‏ ‏{‏فاطر السماوات والأرض‏}‏ ثم أعلمه بما هو أعلم به منه من أنه لا يعول على غيره في شيء من الأشياء فقال‏:‏ ‏{‏أنت وليِّي‏}‏ أي الأقرب إليّ باطناً وظاهراً ‏{‏في الدنيا والآخرة‏}‏ أي لا ولي لي غيرك، والولي يفعل لمولاه الأصلح والأحسن، فأحسن بي في الآخرة أعظم ما أحسنت بي في الدنيا‏.‏

ولما كان توليه لله لا يتم إلا بتولي الله له، أتبعه بما يفيده فقال‏:‏ ‏{‏توفني‏}‏ أي اقبض روحي وافياً تاماً في جميع أمري حساً ومعنى حال كوني ‏{‏مسلماً‏}‏ ولما كان المسلم حقيقة من كان عريقاً في الإخلاص، حققه بقوله‏:‏ ‏{‏وألحقني بالصالحين *‏}‏ فتوفاه الله كما سأل؛ قالوا‏:‏ وتخاصم أهل مصر فيه، كلهم يرجو أن يدفن في محلته يرجو بركته، ثم اصطلحوا على أن عملوا له صندوقاً من رخام ودفنوه في وسط النيل، ليفترق الماء على جميع الأرض فتنالها بركته وتخصب كلها على حد سواء، ويكونوا كلهم في الماء سواء‏.‏

ذكر ما بقي من القصة عن التوراة‏:‏

قال بعدما مضى‏:‏ فلم يقدر يوسف على الصبر- يعني على ترفق إخوته- فأمر بإخراج جميع من كان عنده، فلم يبق عنده أحد حيث ظهر يوسف لإخوته، فرفع صوته فبكى حتى سمع المصريون فأخبروا في آل فرعون، فقال يوسف لإخوته‏:‏ أنا أخوكم يوسف، هل أبي باق‏؟‏ فلم يقدر إخوته على إجابته لأنهم رهبوه، فقال يوسف لإخوته‏:‏ ادنوا مني فدنوا فقال لهم‏:‏ أنا يوسف الذي بعتموني لمن ورد إلى مصر، والآن فلا تحزنوا، ولا يشقن عليكم ذلك، ولا يشتدن عليكم بيعكم إياي إلى ما هنا، لأن الله أرسلني أمامكم لأعد لكم القوت، لأن للجوع مذ أتى سنتين، وستأتي خمس سنين أخر لا يكون فيها زرع ولا حصاد، فأرسلني الرب أمامكم لأصير لكم بقاء في الأرض وأخلصكم وأستنقذكم، لتحيوا وتستبشروا على الأرض، والآن فلستم أنتم الذين بعثتموني إلى هاهنا بل الله أرسلني وجعلني أباً لفرعون وسيداً لجميع أهل بيته، ومسلطاً على جميع أرض مصر، فاصعدوا الآن عجلين عليّ بأبي وقولوا له‏:‏ هكذا يقول ابنك يوسف‏:‏ إن الله جعلني سيداً لجميع أهل مصر، فاهبط إليّ ولا تتأخر، وانزل إلى أرض السدير- وفي نسخة‏:‏ خشان- فكن قريباً مني أنت وبنوك وأهل بيتك وعمتك وبقرك وجميع مالك، فأموّنكم هناك، لأنه قد بقي خمس سنين جوعاً، لئلا تهلك أنت وأهل بيتك وكل مالك، وهذه أعينكم تبصر وعينا أخي بنيامين، إني أكلمكم مشافهة، وأخبروا أبي بجميع كرامتي ووقاري في أرض مصر، وبجميع ما رأيتم، وأسرعوا واهبطوا بأبي إلى ما هاهنا، فاعتنق أخاه بنيامين أيضاً وبكى، وقبل جميع إخوته وبكى، ومن بعد ذلك كلمه إخوته، فبلغ ذلك فرعون وقيل له‏:‏ إن إخوة يوسف قد أتوه، فسر ذلك فرعون، عبده- وفي نسخة‏:‏ وجميع قواده- فقال فرعون ليوسف‏:‏ قل لإخوتك فليفعلوا هكذا، أوقروا دوابكم ميرة، وانطلقوا بها إلى أرض كنعان، وأقبلوا بأبيكم وأهل بيوتاتكم وائتوني فأنحلكم خيرات أرض مصر وخصبها، وكلوا خصب الأرض، وهذا أنت المسلط، فأمر إخوتك أن يفعلوا هذا الفعل، احملوا من أرض مصر عجلاً لنسائكم وحشمكم، وأظعنوا بأبيكم فأقبلوا، ولا تشفقن على أمتعتكم، لأن جميع خيرات مصر وأرضها وخصبها هو لكم، ففعل بنو إسرائيل كما أمر فرعون، ودفع إليهم يوسف عجلاً عن أمر فرعون، وزودهم جميع أزودة الطريق، وخلع على كل أمرئ منهم خلعة، فأما بنيامين فأجازه بثلاثمائة درهم- وفي نسخة‏:‏ مثقال فضة- وخلع عليه خمس خلع، وبعث إلى أبيه بمثل ذلك أيضاً وعشرة حمير موقرة من البر والطعام وأزودة لأبيه للطريق وأرسلهم، فانطلقوا، وتقدم إليهم وقال لهم‏:‏ لا تقع المشاجرة فيما بينكم في الطريق، فظعنوا من مصر فأتوا أرض كنعان إلى يعقوب أبيهم، فأخبروه وقالوا له‏:‏ إن يوسف بعد في الحياة، وهو المسلط على جميع أرض مصر، ورأى يعقوب العجل الذي بعث يوسف لحمله فاطمأنت نفسه وقال‏:‏ إن هذا لعظيم عندي، إذ كان ابني يوسف بعد الحياة، أنطلق الآن فأنظر إليه قبل الموت‏.‏

فظعن إسرائيل وجميع ما له، فأتى بئر السبع، وقرب قرباناً لإله إسحاق أبيه، فكلم الله إسرائيل في الرؤيا وقال له‏:‏ يا يعقوب‏!‏ فقال‏:‏ هاأنذا‏!‏ فقال‏:‏ إني أنا إيل إله أبيك، لا تخف من الحدور إلى مصر، لأني أجعلك هناك إلى شعب عظيم- وفي نسخة‏:‏ لأني أصير منك أمة عظيمة- أنا أهبط معك، وأنا أصعدك، ويوسف يضع يده على عينيك، فنهض يعقوب من بئر السبع وظعن بنو إسرائيل بيعقوب أبيهم وبحشمهم ونسائهم على العجل الذي بعث فرعون لحمله، وساقوا دوابهم ومواشيهم التي استفادوها بأرض كنعان، فأتوا بها مصر يعقوب وجميع نسله وبنوه معه وبنو بنيه وبناته وبنات بناته، وأدخل إلى مصر كل نسله،

ثم سماهم واحداً واحداً، ثم قال‏:‏ فجميع بني يعقوب الذين ادخلوا مصر سبعون إنساناً، ثم بعث يعقوب يهوذا بين يديه إلى يوسف عليه الصلاة والسلام ليدله على السدير- وفي نسخة‏:‏ خشان- فألجم يوسف مراكبه، وصعد للقاء أسرائيل أبيه إلى خشان- وفي نسخة‏:‏ السدير- فتلقاه واعتنقه وبكى إذ اعتنقه، فقال إسرائيل ليوسف‏:‏ أتوفى الآن بعد نظري إليك يا بني، فأنت في الحياة بعد، فقال يوسف لإخوته وآل أبيه‏:‏ أصعد فأخبر فرعون وأقول‏:‏ إن إخوتي وآل أبي الذين كانوا بأرض كنعان قد أتوني والقوم رعاء غنم، لأنهم أصحاب مواش وقد أتوا بغنمهم وبقرهم وبكل شيء لهم، فإذا دعاكم فقولوا له‏:‏ إنا عبيدك أصحاب ماشية منذ صبانا، وحتى الآن نحن وآباؤنا من قبل أيضاً، لكي تنزلوا أرض خشان- وفي نسخة‏:‏ السدير- لأن رعاة الغنم هم مرذولون عند المصريين‏.‏

فأتى يوسف فأخبر فرعون وقال له‏:‏ إن أبي وإخوتي أتوني وغنمهم وبقرهم وجميع ما لهم في أرض كنعان، وهو ذا هم حلول بأرض السدير، وحمل من إخوته خمسة رهط، فأدخلهم على فرعون فوقفوا بين يديه، فقال فرعون لإخوة يوسف‏:‏ ما صنعتكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ إن عبيدك رعاء غنم نحن منذ صبانا، وآباؤنا أيضاً من قبل‏.‏ وقالوا لفرعون‏:‏ إنا أتينا لنسكن هذه الأرض لأنه فقد الحشيش والعشب والكلأ من مرابع غنم عبيدك، وذلك لأن الجوع اشتد في أرض كنعان، فأمر عبيدك أن ينزلوا بأرض السدير، فقال فرعون ليوسف‏:‏ إن أباك وإخوتك قد أتوا، وهذه أرض مصر بين يديك، فأسكن أباك وإخوتك في أحسن الأرض وأخصبها لينزلوا أرض السدير، وإن كنت تعلم أن فيهم قوماً ذوي قوة وبطش ونفاذ فولهم جميع مالي، فأدخل يوسف عليه السلام أباه يعقوب عليهم الصلاة والسلام على فرعون فأقامه بين يديه، فقال فرعون ليعقوب عليه الصلاة والسلام‏:‏ كم عدد سني حياتك‏؟‏ فقال يعقوب عليه السلام لفرعون‏:‏ مبلغ حياتي مائة وثلاثون سنة، وإن أيام حياتي لناقصة، ولم أبلغ سني حياة آبائي في أيام حياتهم، فبارك يعقوب فرعون ودعا له، وخرج من بين يديه، فأسكن يوسف عليه السلام أباه يعقوب عليه السلام وإخوته وأعطاهم وراثة في أرض مصر في أخصب الأرض وأحسنها في أرض رعمسيس- وفي نسخة‏:‏ أرض عين شمس- كما أمر فرعون، فقات يوسف أباه وإخوته وجميع أهل بيته بالميرة على قدر الحشم، ولم تكن ميرة في جميع الأرض كلها لأن الجوع اشتد جداً، فخرجت جميع أرض مصر وأرض كنعان، فصار إلى يوسف عليه الصلاة والسلام كل ورق ألفي في أرض مصر وأرض كنعان، وذلك ثمن البر الذي كانوا يبتاعونه، فأورد يوسف الورق بيت مال فرعون، ونفد الورق من أرض مصر وأرض كنعان، فأتى جميع المصريين إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فقالوا له‏:‏ أعطنا من القمح حاجتنا فنحيى ولا نموت، لأن ورقنا قد نفذ، فقال لهم يوسف‏:‏ ادفعوا إليَّ مواشيكم إن كانت الأوراق قد نفدت، فأقوتكم بمواشيكم، فأتوه بمواشيهم فأعطاهم يوسف من الميرة بخيلهم وبمواشي الغنم وماشية البقر والحمير، وقاتهم سنتهم تيك بجميع مواشيهم، فأتوه في السنة الأخرى وقالوا له‏:‏ لسنا نكتم سيدنا أمرنا، لأنن أوراقنا وماشيتنا ودوابنا قد نفدت وصارت عند سيدنا، ولم يبق بين يدي سيدنا غير أنفسنا وأرضنا، فلم نهلك بين يديك‏؟‏ فابتعنا وأراضينا بإطعامك إيانا الخبز، فنصير نحن عبيداً لفرعون وأرضنا ملكاً له، وأعطنا البذر فنحيا ولا نموت، ولا تخلو الأرض وتخرب لفقد سكانها، فابتاع يوسف لفرعون جميع أرض مصر، فصارت الأرض لفرعون، فنقل الشعب من قرية إلى قرية وحولهم من أقاصي الأرض نحو مصر إلى أقطارها ما خلا أرض الأجناد- وفي نسخة‏:‏ أئمتهم- فإنه لم يبتعها، لأنه كان يجري على الأجناد- وفي رواية‏:‏ أئمتهم- وظيفة ونزلا من عند فرعون، وكانوا يأكلون برهم الموظف لهم من قبل فرعون، ولذلك لم يبيعوا أرضهم، فقال يوسف للشعب‏:‏ إني قد اشتريتكم اليوم وأرضكم لفرعون، وهاأنذا معطيكم البذر لتزرعوا في الأرض، فإذا دخلت الغلة فأعطوا فرعون الخمس منها، وتكون لكم لزراعة الحقل أربعة أخماس، ولمأكل أهل بيوتاتكم وإطعام حشمكم، فقالوا له‏:‏ لقد أحييتنا، فلنظفر من سيدنا برحمة ورأفة، ونكون عبيداً لفرعون، فسن يوسف هذه السنة على أرض مصر إلى يوم الناس هذا، فصار الخمس لفرعون ما خلا أرض أئمتهم- وفي رواية‏:‏ الأجناد- فإنها لم تكن لفرعون‏.‏

فسكن إسرائيل أرض مصر وأرض السدير، فعظموا واعتزوا فيها واستيسروا وتماجدوا، وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة، وكانت جميع أيام حياة يعقوب مائة وسبعاً وأربعين سنة، ودنت أيام وفاة إسرائيل عليه السلام، فدعا يوسف ابنه عليه السلام وقال له‏:‏ إن ظفرت منك برحمة ورأفة، فضع يدك تحت ظهري حتى أستحلفك بالله وأقسم عليك به، وأنعم عليّ بالنعمة والقسط، لا تدفني بمصر، بل أضطجع مع آبائي، احملني من مصر فادفني في مقبرتهم، فقال يوسف‏:‏ أنا فاعل ذلك كقولك وأمرك، فقال له‏:‏ أقسم لي، فأقسم له فتوكأ إسرائيل على عصاه وسجد شكراً‏.‏

فلما كان بعد هذه الأقاويل بلغ يوسف عليه السلام أن أباه قد مرض، فانطلق بابنيه معه‏:‏ منشا وإفرايم، فبلغ يعقوب وقيل له‏:‏ إن ابنك يوسف قد أتاك، فتقوى إسرائيل وجلس على أريكته، فقال إسرائيل ليوسف‏:‏ إن إله المواعيد اعتلن لي بلوز في أرض كنعان، فباركني وقال لي‏:‏ هاأنذا مباركك ومكثرك، وأجعلك أباً لجميع الشعوب، وأعطي نسلك من بعدك هذه الأرض ميراثاً إلى الأبد، وأنا إذ كنت مقبلاً من فدانة أرام توفيت عني راحيل أمك في أرض كنعان في الطريق، وكان بيني وبين الدخول إلى إفراث قدر مسيرة ميل- وفي نسخة‏:‏- فرسخ- فدفنتها هناك في طريق إفراث- وهي بيت لحم- ونظر إسرائيل إلى ابني يوسف فقال له‏:‏ من هذان‏؟‏ فقال‏:‏ ابناي اللذان رزقني الله هاهنا، فقال أدنهما مني، فقبلهما واعتنقهما وقال‏:‏ ما كنت أرجو النظر إلى وجهك فقد أراني الله نسلك أيضاً، وقال إسرائيل ليوسف عليهما الصلاة والسلام‏:‏ هاأنذا متوف، ويكون الله بنصره وعونه معكم، ويردكم إلى أرض آبائكم، وهأنذا قد فضلتك على إخوتك بسهم من الأرض التي غلبت عليها الأمورانيون بسيفي وقوسي، ثم إن يعقوب دعا بنيه وقال؛ اجتمعوا إليّ فأبين لكم ما هو كائن من أمركم في آخر الأيام، فذكر ذلك ثم قال‏:‏ وهذا ما أخبرهم به يعقوب أبوهم، نبأهم بذلك وبارك عليهم كل امرئ منهم على قدره، ثم أوصاهم وقال لهم‏:‏ إنني أنتقل إلى شعبي فادفنوني إلى جانب آبائي في المغارة التي في حقل عفرون الحيثاني، في المغارة التي في الروضة المضاعفة إلى جانب ممري بأرض كنعان التي ابتاعها إبراهيم‏:‏ روضة من عفرون الحيثاني وراثة المقبرة، هنالك دفن إبراهيم وسارة حليلته، وفيها دفن إسحاق ورفقا حليلته، وهنالك دفنت ليا في الروضة المبتاعة والمغارة التي فيها من بني حاث‏.‏

فلما فرغ يعقوب من وصيته لبنيه بسط رجليه على أريكته فمات ونقل إلى شعبه‏.‏

فوقع يوسف عليه فقبله وبكى عليه، فأمر عبيده الأطباء بتحنيطه، فحنط الأطباء إسرائيل وتمت له أربعون ليلة، لأنه هكذا تكمل أيام المحنطين، وناح المصريون عليه سبعين يوماً، فقال يوسف لآل فرعون‏:‏ إن ظفرت منكم برحمة ورأفة فأخبروا فرعون أن أبي أحلفني وأقسم عليّ وقال لي‏:‏ هاأنا متوف، فاقبرني في القبر الذي ابتعته في أرض كنعان، فيأذن لي فأصعد فأدفن أبي ثم أرجع، فقال له فرعون‏:‏ اصعد فادفن أباك كما أقسم عليك، فصعد يوسف ليدفن أباه، وصعد معه جميع عبيد فرعون وأشياخ بيته وجميع أشياخ مصر وجميع أهل بيت يوسف، وصعد معه إخوته وآل أبيه، وأما حشمهم وبقرهم وغنمهم فخلفوها بأرض خشان- وفي نسخة‏:‏ السدير- وأصعد المراكب والفرسان أيضاً، فصار في عسكرعظيم منيع، فأتوا إلى بيادر أطرا- وفي نسخة‏:‏ أندر العوسج- التي في مجاز الأردن، فرنوا هناك وناحوا نوحاً عظيماً مراً، فنظر سكان أرض كنعان إلى التأبل والنواح في أجران العوسج، فقالوا‏:‏ إن هذا التأبل عظيم للمصريين، ولذلك دعي ذلك الموضع «تأبل مصر»، الذي في مجاز الأردن، ففعل بنو إسرائيل كما أمرهم، وحملوه وانطلقوا به إلى أرض كنعان فدفنوه ثم في المغارة المضاعفة التي في الروضة التي ابتاعها إبراهيم وراثة المقبرة من عفرون الحيثاني وهي إمام ممري‏.‏

ثم رجع يوسف إلى مصر هو وإخوته وجميع من صعد معه في دفن أبيه، ومن بعد ما دفن أباه نظر إخوة يوسف إلى أبيهم قد توفى، ففرقوا وقالوا‏:‏ لعل يوسف أن يؤذينا وينكأنا ولعله أن يكافئنا على جميع الشر الذي ارتكبنا منه، فدنوا من يوسف وقالوا له‏:‏ إن أباك أوصى قبل وفاته وقال‏:‏ هكذا قولوا ليوسف‏:‏ نطلب إليك أن تعفو عن جهل إخوتك وعن خطاياهم بارتكابهم الشر منك، فالآن نطلب إليك أن تعفو عن ذنب عبيد إله أبيك، فبكى يوسف لما قالوا ذلك، فدنا إخوته فخروا بين يديه سجداً وقالوا له‏:‏ هوذا نحن لك عبيد، فقال لهم‏:‏ لا تخافوني لأني أخاف الله، أما أنتم فهممتم بي شراً فصيره الله لي خيراً كما فعل بي يومنا هذا، فأحيي على يدي خلقاً عظيماً، والآن فلا خوف عليكم، أنا أقوتكم وحشمكم، فعزاهم وملأ قلوبهم خيراً‏.‏

ثم أقام يوسف بمصر هو وآل بيته، فعاش يوسف مائة وعشر سنين ورأى يوسف ولد ولده، فقال يوسف لإخوته‏:‏ هاأنذا متوف، والله سيذكركم ويخرجكم من هذه الأرض إلى الأرض التي أقسم بها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأقسم يوسف على بني أسرائيل وقال‏:‏ إن الله سيذكركم، فأصعدوا عظامي معكم، فتوفي يوسف وهو ابن مائة وعشر سنين، فحنطوه ووضعوه في صندوق بأرض مصر- وسيأتي ما بعد ذلك من استعبادهم وما يتبعه في سورة القصص إن شاء الله تعالى‏.‏

وهذا الذي ذكر من القصة في التوراة مصدق لما في القرآن وشاهد بإعجازه، غير أنه لم يذكر شرح قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 80‏]‏ في أنه بعد أخذ الصواع من رحل أخيه تركهم من غير تعريف لهم بنفسه فمضوا إلى أبيهم فأخبروه بذلك، ثم عادوا مرة أخرى للميرة والطلب ليوسف وأخيه فعرفهم يوسف عليه السلام بنفسه وجلا لهم الأمر في هذه القدمة الثالثة، فكأنهم أسقطوا ما في التوراة من ذلك تدليساً وتلبيساً، وهو لا يضر غيرهم، فإن ما صار في كتابهم لا يتمشى على قوانين العقل لمن تدبر، فلم يفدهم ذلك غير التحقق لخيانتهم وجهلهم- والله الهادي إلى الصواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 106‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏105‏)‏ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

ولما تم الذي كان من أمرهم على هذا الوجه الأحكم والصراط الأقوم من ابتدائه إلى انتهائه، قال مشيراً إلى أنه دليل كاف في تصحيح دعوى النبوة مخاطباً لمن لا يفهم هذا الحق فهمه غيره، مسلياً له مثبتاً لفؤاده وشارحاً لصدره، منبهاً على أنه مما ينبغي السؤال عنه‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي النبأ العالي الرتبة الذي قصصناه قصاً يعجز البلغاء من حملته ورواته فكيف بغيرهم ‏{‏من أنباء الغيب‏}‏ أي أخباره التي لها شأن عظيم ‏{‏نوحيه إليك‏}‏ وعبر بصيغة المضارع تصويراً لحال الإيحاء الشريف وإشارة إلى أنه لا يزال معه يكشف له ما يريد ‏{‏و‏}‏ الحال أنك ‏{‏ما كنت لديهم‏}‏ أي عند إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام في هذا النبأ الغريب جداً ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏أجمعوا أمرهم‏}‏ على رأي واحد في إلقاء يوسف عليه الصلاة والسلام في الجب بعد أن كان مقسماً ‏{‏وهم يمكرون *‏}‏ أي يدبرون الأذى في خفية، من المكر وهو القتل- لتعرف ذلك بالمشاهدة، وانتفاء تعلمك لذلك من بشر مثل انتفاء كونك لديهم في ذلك الحين، ومن المحقق لدى كل ذي لب أنه لا علم إلا بتعليم، فثبت أنه لا معلم لك إلا الله كما علم إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيا له من دليل جل عن مثيل، وهذا من المذهب الكلامي، وهو إيراد حجة تكون بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمطلوب، وهو تهكم عظيم ممن كذب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما نقله أبو حيان عن ابن الأنباري- عن قصة يوسف عليه الصلاة والسلام فنزلت مشروحة هذا الشرح الشافي، مبينة هذا البيان الوافي، فأمل صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك سبب إسلامهم فخالفوا تأميله، عزاه الله بقوله‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي نوحيه إليك على هذا الوجه المقتضي لإيمانهم والحال أنه ما ‏{‏أكثر الناس‏}‏ أي كلهم مع ذلك لأجل ما لهم من الاضطراب ‏{‏ولو حرصت‏}‏ أي على إيمانهم ‏{‏بمؤمنين *‏}‏ أي بمخلصين في إيمانهم واصفين الله بما يليق به من التنزه عن شوائب النقص، فلا تظن أنهم يؤمنون لإنزال ما يقترحون من الآيات، أو لترك ما يغيظهم من الإنذار؛ والكثير- قال الرماني‏:‏ العدة الزائدة على مقدار غيرها، والأكثر‏:‏ القسم الزائد على القسم الآخر من الجملة، ونقيضه الأقل؛ والناس‏:‏ جماعة الإنسان، وهو من ناس ينوس- إذا تحرك يمنياً وشمالاً من نفسه لا بجر غيره‏.‏

ولما ذكر تعالى ما هم عليه من الكفر، ذكر ما يعجب معه منه فقال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي هم على ذلك والحال أن موجب إيمانهم موجود، وذلك أنك- مع دعائهم إلى الطريق الأقوم وإيتانك عليه بأوضح الدلائل ما ‏{‏تسئلهم عليه‏}‏ أي هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك، وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من أجر‏}‏ حتى يكون سؤالك سبباً لأن يتهموك أو يقولوا‏:‏ لولا أنزل عليه كنز ليستغني به عن سؤالنا‏.‏

ولما نفى عنهم سؤالهم الأجر، نفى عن هذا الذكر كل غرض دنيوي فقال‏:‏ ‏{‏إن هو‏}‏ أي هذا الكتاب ‏{‏إلا ذكر‏}‏ أي تذكير وشرف ‏{‏للعالمين *‏}‏ قال الرماني‏:‏ والذكر‏:‏ حضور المعنى للنفس، والعالم‏:‏ جماعة الحيوان الكثيرة التي من شأنها أن تعلم، لأنه أخذ من العلم، وفيه معنى التكثير، وقد يقال‏:‏ عالم الفلك وما حواه على طريق التبع للحيوان الذي ننتفع به وهو مجعول لأجله‏.‏

ولما كان القرآن العظيم أعظم الآيات بما أنبأ فيه عن الإخبار الماضية والكوائن الآتية على ما هي عليه مضمنة من الحكم والأحكام، في أساليب البلاغة التي لا ترام، وغير ذلك ما لا يحصر بنظام، كما أشار إليه أول السورة، كان ربما قيل‏:‏ إن هذا ربما لا يعلمه إلا الراسخون في العلوم الإلهية، عطف عليه الإشارة إلى أن له تعالى غيره من الآيات إلتي لا تحتاج لوضوحها إلى أكثر من العقل ما لا يحيط به الحصر، ومع ذلك فلم ينتفعوا به، فقال‏:‏ ‏{‏وكأين من آية‏}‏ أي علامة كبيرة دالة على وحدانيته ‏{‏في السماوات‏}‏ أي كالنيرين وسائر الكواكب والسحاب وغير ذلك ‏{‏والأرض‏}‏ من الجبال والشجر والدواب وغير ذلك مما لا يحصيه العد- كما سيأتي بيانه في سورة الرعد مفصلاً ‏{‏يمرون عليها‏}‏ مشاهدة بالحس ظاهرة غير خفية ‏{‏وهم عنها‏}‏ أي خاصة لا عن ملاذهم وشهواتهم بها ‏{‏معرضون *‏}‏ أي عن دلالتها على السعادة من الوحدانية وما يتبعها‏.‏

ولما كان ربما قيل‏:‏ كيف يوصفون بالإعراض وهم يعتقدون أن الله فاعل تلك الآيات، بين أن إشراكهم مسقط لذلك، فقال‏:‏ ‏{‏ما يؤمن أكثرهم‏}‏ أي الناس ‏{‏بالله‏}‏ أي الذي لا شيء إلا وهو داع إلى الإيمان به، لأنه المختص بصفات الكمال ‏{‏إلا وهم مشركون *‏}‏ به مَن لا يقدر على شيء فضلاً عن أن يأتي بآية، كانوا يقرون بأن الله خالقهم ورازقهم ويعبدون غيره، وكذا المنافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفران، وكذا أهل الكتابين يؤمنون بكتابهم ويقلدون علماءهم في الكفر بغيره، فعلم أن إذعانهم بهذا الإيمان غير تابع لدليل، وهو محض تقليد لمن زين له سوء علمه فرآه حسناً، لما سبق فيه من علم الله أنه لا صلاحية له فأفسده بما شابهه به من الشرك، والآية صالحة لإرادة الشرك الخفي الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل» وهو شرك الأسباب التي قدر الله وصول ما يصل إلى العبد بواسطتها، فقل من يتخطى من الأسباب إلى مسببها‏!‏ قال الرازي في اللوامع‏:‏ وقال الإمام محمد بن علي الترمذي‏:‏ إنما هو شك وشرك فالشك ضيق الصدر عند النوائب، ومنه ثوب مشكوك، والشرك بنور التوحيد، فعند هذا يتولاه الله تعالى، وقال الواسطي‏:‏ إلا وهم مشركون‏:‏ في ملاحظة الخواطر والحركات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 109‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏107‏)‏ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏108‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

ولما أخبر الله تعالى عن ارتباكهم في أشراك إشراكهم، وأنهم يتعامون عن الأدلة في الدنيا، وكان الأكثر المبهم القطع بعدم إيمانهم من توجيه الأمر والنهي والحث والزجر إلى الجميع وهم في غمارهم، وكان بعض الناس كالحمار لا ينقاد إلا بالعذاب، قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أفأمنوا‏}‏ إنكاراً فيه معنى التوبيخ والتهديد ‏{‏أن تأتيهم غاشية‏}‏ أي شيء يغطيهم ويبرك عليهم ويحيط بهم ‏{‏من عذاب الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله في الدنيا كما أتى من ذكرنا قصصهم من الأمم‏.‏

ولما كان العاقل ينبغي له الحذر من كل ممكن وإن كان لا يقربه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو تأتيهم الساعة‏}‏ وأشار إلى أشد ما يكون من ذلك على القلوب بقوله‏:‏ ‏{‏بغتة‏}‏ أي وهم عنها في غاية الغفلة بعدم توقعها أصلاً؛ قال الرماني‏:‏ قال يزيد بن مقسم الثقفي‏:‏

ولكنهم بانوا ولم أدر بغتة *** وأفظع شيء حين يفجؤك البغت

ولما كان هذا المعنى مهولاً، أكده الله بقوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يشعرون *‏}‏ أي نوعاً من الشعور ولو أنه كالشعرة، إعلاماً بشدة جهلهم في أن حالهم حال من هو في غاية الأمن مما أقل أحواله أنه ممكن، لأن الشعور إدراك الشيء بما يلطف كدقة الشعر، وإنما قلت‏:‏ إنه تأكيد، لأنه معنى البغتة؛ قال الإمام أبو بكر الزبيدي في مختصر العين‏:‏ البغتة‏:‏ المفاجأة، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه‏:‏ فاجأت الرجل مفاجأة- إذا جئته على غفلة مغافصة، ثم قال‏:‏ وفاجأته مفاجأة- إذا لقيته ولم يشعر بك، وفي ترتيب المحكم‏:‏ فجئه الأمر وفجأه وفاجأه مفاجأة‏:‏ هجم عليه من غير أن يشعر به، ويلزم ذلك الإسراع وهو مدار هذه المادة، لأنه يلزم أيضاً التغب- بتقديم المثناة محركاً وهو الهلاك، لأنه أقرب شيء إلى الإنسان إذ هو الأصل في حال الحدث، والسلامة فيه هي العجب، والتغب أيضاً‏:‏ الوسخ والدرن، وتغب- بكسر الغين‏:‏ صار فيه عيب، ويقال للقحط‏:‏ تغبة- بالتحريك، والتغب- ساكناً‏:‏ القبيح والريبة، وكل ذلك أسرع إلى الإنسان من أضداده إلا من عصم الله، وما ذاك إلا لأن هذه الدار مبينة عليه‏.‏

ولما وصف الله سبحانه له صلى الله عليه وسلم أكثر الناس بما وصف من سوء الطريقة للتقليد الذي منشؤه الإعراض عن الأدلة الموجبة للعلم، أمر أن يذكر طريق الخلّص فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي يا أعلى الخلق وأصفاهم وأعظمهم نصحاً وإخلاصاً‏:‏ ‏{‏هذه‏}‏ أي الدعوة إلى الله على ما دعا إليه كتاب الله وسننه صلى الله عليه وسلم ‏{‏سبيلي‏}‏ القريبة المأخذ، الجلية الأمر، الجليلة الشأن، الواسعة الواضحة جداً، فكأنه قيل‏:‏ ما هي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏أدعوا‏}‏ كل من يصح دعاؤه ‏{‏إلى الله‏}‏ الحائز لجميع الكمال حال كوني ‏{‏على بصيرة‏}‏ أي حجة واضحة من أمري بنظري الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة وترك التقليد الدال على الغباوة والجمود، لأن البصيرة المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل ديناً ودنيا بحيث يكون كأنه يبصر المعنى بالعين‏.‏

ولما كان الموضع في غاية الشرف، أكد الضمير المستتر تعييناً وتنبيهاً على التأهل لظهور الإمامة، فقال‏:‏ ‏{‏أنا ومن‏}‏ أي ويدعو كذلك من ‏{‏اتبعني‏}‏ لا كمن هو على عمى جائر عن القصد، حائر في ضلال التقليد، فهو لا يزال في غفلة هدفاً للحتوف؛ والاتباع‏:‏ طلب الثاني اللحاق بالأول للموافقة في مكانه أو في أمره الذي دعا إليه، ومما دخل تحت ‏{‏قل‏}‏ عطفاً على ‏{‏أدعوا‏}‏ قوله‏:‏ منبهاً على أن شرط كل دعوة إليه سبحانه اقترانها بتنزيهه عن كل شائبة نقص- ‏{‏وسبحان الله‏}‏ أي وأسبح الذي اختص بصفات الكمال سبحاناً، أي أقدره حق قدره فأثبت له من صفات الكمال ما يليق بجلاله، وأنزهه عما هو متعال عنه تنزيهاً يعلم هم أنه يليق بجلالة ويرضى به، وفي تخصيص الله بذلك عقب ما أثبت له ولأتباعه تلويح بنسبة النقص إليهم تواضعاً، اعتذاراً عما يلحقهم من الوهن وطلباً للعفو عنه ‏{‏وما أنا‏}‏ وعدل عن «مشركاً» إلى أبلغ منه فقال‏:‏ ‏{‏من المشركين *‏}‏ أي في عداد من يشرك به شيئاً بوجه من الوجوه، لأني علمت بما آتاني من البصيرة أنه منعوت بنعوت الكمال، منزه عن سمات النقص، متعال عنها، وأن ذلك أول واجب لأنه الواحد الذي جل عن المجانسة، القهار الذي كل شيء تحت مشيئته، وفسرت ‏{‏سبحان‏}‏ بما تقدم لأن مادة «سبح» بكل ترتيب تدور على القدر والشدة والاتساع؛ وتارة يقتصر فيه على الكفاية ومنه الحسب‏:‏ مقدار الشيء‏.‏ وتارة يقتصر فيه على الكفاية فيلزمه الحصر ومنه‏:‏ أحسبني الشيء‏:‏ كفاني، واحتساب الأجر‏:‏ الاكتفاء به، والحساب‏:‏ معرفة المقدار، والحسب بمعنى الظن راجع إلى ذلك أيضاً، والأحسب‏:‏ الذي ابيضت جلدته من داء وفسدت شعرته، بمعنى أن ذلك الداء كفاه في الفساد عن كل داء كأنه ما بقي يسع معه داء، والتحسيب‏:‏ التكفين بما يسع الميت، وهو كفاية له لا يحتاج بعده إلى شيء، ومنه الحبس وهو المنع من مجاوزة الكفاية؛ وتتجاوز الكفاية فيسبح ويتسع مداه فلا ينحصر ومنه‏:‏ الحسب- بالتحريك، وهو الشرف؛ ومنه السحب وبه سمي السحاب لانسياحه في الهواء؛ ومنه السبح في الماء، ومد الفرس يديه في الجري، والسبحة‏:‏ صلاة التطوع- لأنه لا حد لها يحصرها، ولأنها تجاوزت الفرض، والسبح‏:‏ الفراغ- للتمكن معه من الانبساط، والتسبيح‏:‏ التنزيه- لأنه الإبعاد عن النقص، قال الرماني‏:‏ وأصله البراءة من الشيء، وقال ابن مكتوم في الجمع بين العباب والمحكم‏:‏ سبحان الله معناه تنزيهاً لله من الصحابة والولد، وتبرئة من السوء- هذا معناه في اللغة وبذلك جاء الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال سيبويه‏:‏ زعم أبو الخطاب أن «سبحان الله» كقولك براءة الله من السوء، كأنه يقول‏:‏ أبرئ براءة الله من السوء، وزعم أن مثل ذلك قول الأعشى‏:‏

أقول لما جاءني فخره *** سبحان من علقمه الفاخر

أي براءة منه، وبهذا استدل على أن سبحان معرفة إذ لو كان نكرة لانصرف، قال‏:‏ وقد جاء في الشعر منوناً نكرة، قال أمية‏:‏

سبحانه ثم سبحاناً يعود له *** وقبلنا سبح الجودي والجمد

وقال ابن جني‏:‏ سبحان اسم علم لمعنى البراءة والتنزيه بمنزلة عثمان وحمران، اجتمع في سبحان التعريف والألف والنون، وكلاهما علة تمنع من الصرف- انتهى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قوله «سبحان الله» تبرئة لله من السوء، وأهل اللغة كذلك يقولون من غير معرفة بما فيه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ولكن تفسيره يجمعون عليه، وقد سبح الرجل‏:‏ قال سبحان الله، وفي التنزيل ‏{‏كل قد علم صلاته وتسبيحه‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 41‏]‏ وسبح لغة في سبّح، وحكى ثعلب‏:‏ سبح تسبيحاً وسبحاناً، قال ابن سيده‏:‏ وعندي أنا سبحاناً ليس مصدراً لسبّح، إنما هو مصدر سبح، وقال النصر‏:‏ سبحان الله معناه السرعة إليه والخفة في طاعته، وسبوحة- بفتح السين‏:‏ البلد الحرام، وسباح علم الأرض الملساء عند معدن بني سليم، وسبحات وجه الله‏:‏ أنواره، والسبحة‏:‏ الدعاء، وأيضاً صلاة التطوع- انتهى‏.‏ وكله راجع إلى الإبعاد عن السوء، والسبحان‏:‏ النفس، وكل أحد يبرئ نفسه ويرفعها عن السوء‏.‏

ولما أوضح أبطال ما تعنتوا به من قولهم «لو أنزل عليه كنز» أتبعه ما يوضح تعنتهم في قولهم ‏{‏أو جاء معه ملك‏}‏ بذكر المرسلين، وأهل السبيل المستقيم، الداعين إلى الله على بصيرة، فقال‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا‏}‏ أي بما من العظمة‏.‏ ولما كان الإرسال لشرفه لا يتأتى على ما جرت به الحكمة في كل زمن كما أنه لا يصلح للرسالة كل أحد، وكان السياق لإنكار التأييد بملك في قوله ‏{‏أو جاء معه ملك‏}‏ كالذي في النحل، لا لإنكار رسالة البشر، أدخل الجار تنبيهاً على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏ أي إلى المكلفين ‏{‏إلا رجالاً‏}‏ أي مثل ما أنك رجل، لا ملائكة ولا إناثاً- كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، والرجل مأخوذ من المشي على الرجل ‏{‏نوحي إليهم‏}‏ أي بواسطة الملائكة مثل ما يوحى إليك ‏{‏من أهل القرى‏}‏ مثل ما أنك من أهل القرى، أي الأماكن المبنية بالمدر والحجر ونحوه، لأنها متهيئة للإقامة والاجتماع وانتياب أهل الفضائل، وذلك أجدر بغزارة العقل وأصالة الرأي وحدة الذهن وتوليد المعارف من البوادي، ومكة أم القرى في ذلك لأنها مجمع لجميع الخلائق لما أمروا به من حج البيت، وكان العرب كلهم يأتونها؛ قال الرماني‏:‏ وقال الحسن‏:‏ لم يبعث الله نبياً من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء- انتهى‏.‏

وذلك لأن المدن مواضع الحكمة، والبوادي مواطن لظهور الكلمة، ولما كانت مكة أو القرى مدينة، وهي مع ذلك في بلاد البادية، جمعت الأمرين وفازت بالأثرين، لأجل أن المرسل إليها جامع لكل ما تفرق في غيره من المرسلين، وخاتم لجميع النبيين- صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين‏.‏

ومادة «قرى»- يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة بتراكيبها الخمسة عشر- تدور على الجمع، ويلزمه الإمساك، وربما كان عنه الانتشار، فالقرية- بالفتح ويكسر‏:‏ المصر الجامع، وأقرى‏:‏ لزم القرية، والقاري‏:‏ ساكنها، والقارية‏:‏ الحاضرة الجامعة، وطير أخضر، إما للزومها، وإما لجمع لونه للبصر، والقريتين- مثنى وأكثر ما يتلفظ به بالياء‏:‏ مكة والطائف، وقرية النمل‏:‏ مجتمع ترابها، وقريت الماء في الحوض‏:‏ جمعته، والمقراة‏:‏ شبه حوض، وكل ما اجتمع فيه ماء، والقريّ‏:‏ ماء مستجمع، والمدة تقرى في الجرح- أي تجتمع، والقواري‏:‏ الشهود- لجمعهم الأمور، والقواري‏:‏ الناس الصالحون- كأنه مخفف من المهموز، وقريت الضيف قرى بالكسر والقصر، وبالفتح والمد‏:‏ أضفته كاقتريته، والمقراة‏:‏ الجفنة يقرى فيها الضيف، والمقاري‏:‏ القدور، وقرى البعير وكل ما اجتر‏:‏ جمع جرته في شدقه، وقرت الناقة‏:‏ ورم شدقاها من وجع الأسنان كأنها لا تقدر مع ذلك على جمع الجرة، فيكون من السلب، وقرى البلاد‏:‏ تتبعها يخرج من أرض إلى أرض كاقتراها واستقرها- لجمعه بينها، وقريّ الماء كغني‏:‏ مسيله من التلاع، أو موقعه من الربو إلى الروضة- لأنه مكان اجتماعه، وقرى الخيل‏:‏ واد- كأنها اجتمعت فيه، والقرية- كغنية‏:‏ العصا لأن الراعي يجمع بها ما يرعاه‏.‏ وبها يجمع كل ما يراد جمعه، وأعواد فيها فرض يجعل فيها رأس عمود البيت، لأنه بها يقام فيجمع من يراد، وعود الشراع الذي في عرضه من أعلاه، لأنه يجمع الشراع ملفوفاً ومنشوراً، وقريت الصحيفة لغة في قرأتها- إذا تلوتها فجمعت علمها وكلامها، والقارية‏:‏ أسفل الرمح، لأنه يجمع زجه، أو أعلاه، لأنه يجمع عاليته، وحد الرمح، لأنه يجمع مراد صاحبه، وكذا حد السيف، والقارية- بالتشديد‏:‏ طائر أخضر إذا رأوه استبشروا بالمطر- كأنه رسول الغيث أو مقدمة السحاب، جمعه قواري، كأنه سمي بذلك لأنه سبب جمع الهم للمطر؛ والقير والقار‏:‏ شيء أسود تطلى به السفن، والإبل، والحباب، والزقاق، أو هما الزفت، وعلى كل تقدير هو ساد للشقوق والمسام فكان الجامع بين أجزاء السفينة وغيرها، وهذا أقير من هذا أشد مرارة- تشبيه بالقير الطعم، والمر أيضاً يجمع الفم نحوه بالقبض، والقيّور- كتنور‏:‏ الخامل النسب، شبه به أيضاً لأن القير لما قل احتياج أكثر الناس إليه في كثير من الأوقات صار قليل الذكر- وهذا معنى الخمول، والقيار كشداد‏:‏ صاحب القير، وبئر لبني عجل قرب واسط، وكأنها سميت لجمعها إياهم، وقيار اسم فرس، كأنه لجودته يجمع لصاحبه ما يريد، والقارة‏:‏ الدّبة كذلك، والقارة‏:‏ حي من العرب سموا لأن ابن الشداخ أراد أن يفرقهم في كنانة فقال شاعرهم‏:‏

دعونا قارة لا تجفلونا *** فنجفل مثل إجفال الظليم

ذكره مختصر العين هنا وغيره في الواو، واقتار الحديث اقتياراً‏:‏ بحث عنه- لأن ذلك سبب لجمعه، والقيِّر- كهيّن‏:‏ الأسوار من الرماة الحاذق، لأنه يجمع بذلك ما يريد؛ ورقيت الرجل بالفتح رقية‏:‏ عوذته، ونفثت في عوذته- لأن الراقي يجمع ريقه وينفث، ورقيت في الشيء رقياً- إذا صعدت عليه- كأنك جمعت بين درجه، والمرقاة بالفتح ويكسر‏:‏ الدرجة، لأن العلو من آثار الجمع، ورقى عليه كلاماً ترقية‏:‏ رفع، لأنه جمعه عليه، ومرقيا الأنف‏:‏ حرفاه لأنهما الجامعان له؛ والرائق من الماء‏:‏ الخالص، لأنه إذا خلص اشتد تلاصق أجزائه لزوال ما كان يتخللها من الغبر، وراق الماء يريق- إذا انصب، إما لأنه اجتمع إلى المحل الذي انصب إليه، أو يكون من السلب كأراقه بمعنى صبه، وراق السراب يريق وتريق يتريق- إذا تضحضح فوق الأرض أي تردد، إما من السلب، وإما تشبيه بالمجتمع، والريق‏:‏ تردد الماء على وجه الأرض من الضحضاح أي ليسير ونحوه، لأنه لا يتردد إلا وهو مجتمع، والريق‏:‏ أول كل شيء وأفضله من الرائق بمعنى الخالص، ولأن الأول يجتمع إليه غيره، والأفضل يجمع ما يراد، والريق أيضاً‏:‏ الباطل، كالريوق كتنور- تشبيهاً بالسراب، وريق الفم معروف، لاجتماعه، والريق‏:‏ القوة، لجمعها المراد، والريق الرائق‏:‏ الخالص وكل ما أكل أو شرب على الريق، ومن ليس في يده شيء، كأنه خلص عن العلائق فاجتمع همه، ومن هو على الريق كريقي ككيس، وهو يريق بنفسه‏:‏ يجود بها عند الموت، من راق الماء‏:‏ انصب، والمريق- كمعظم‏:‏ من لا يزال يعجبه شيء، ولعله من راقه يروقه- إذا أعجبه، فجمع همه إليه؛ واليارق‏:‏ ضرب من الأسورة، لأنه يجمع المعصم، واليرقان- ويسكن‏:‏ الاستقامة والطريقة وآفة للزرع‏.‏ ومرض معروف، وسيذكر في «أرق» في أول سورة الحجر إن شاء الله تعالى‏.‏

ولما كان الاعتبار بأحوال من سلف للنجاة مما حل بهم أهم المهم، اعترض بالحث عليه بين الغاية ومتعلقها، فقال‏:‏ ‏{‏أفلم يسيروا‏}‏ أي يوقع السير هؤلاء المكذبون ‏{‏في الأرض‏}‏ أي في هذا الجنس الصادق بالقليل والكثير‏.‏ ولما كان المراد سير الاعتبار سبب عنه قوله ‏{‏فينظروا‏}‏ أي عقب سيرهم وبسببه، ونبه على أن ذلك أمر عظيم ينبغي الاهتمام بالسؤال عنه بذكر أداة الاستفهام فقال ‏{‏كيف كان عاقبة‏}‏ أي آخر أمر ‏{‏الذين‏}‏ ولما كان الذين يعتبر بحالهم- لما حل بهم من الأمور العظام- في بعض الأزمنة الماضية، وكان المخاطبون بهذا القرآن لا يمكنهم الإحاطة بأهل الأرض وإن كان في حال كل منهم عظه، أتى بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ في الرضى بأهوائهم في تقليد آبائهم، وهذا كما تقدم في سورة يونس من أن الآيات لا تغني عمن ختم على قلبه، والتذكير بأحوال الماضين من هلاك العاصين ونجاة الطائعين، والاعتراض بين ذلك بقوله ‏{‏قل انتظروا إني معكم من المنتظرين‏}‏ وهو يدل على أنه تعالى يغضب ممن أعرض عن تدبر آياته؛ والسير‏:‏ المرور الممتد في جهة، ومنه أخذ السير، وأخذ السيور من الجلد؛ والنظر‏:‏ طلب إدراك المعنى بالعين أو القلب، وأصله مقابلة الشيء بالبصر لإدراكه‏.‏

ولما كان من الممكن أن يدعي مطموس البصيرة أنه كان لهم نوع خير، قال على طريقة إرخاء العنان‏:‏ ‏{‏ولدار‏}‏ أي الساعة أو الحالة ‏{‏الآخرة‏}‏ أي التي وقع التنبيه عليها بأمور تفوت الحصر منها دار الدنيا فإنه لا تكون دنيا إلا بقصيا ‏{‏خير للذين اتقوا‏}‏ أي حملهم الخوف على جعل الائتمار والانزجار وقاية من حياة أهون مآلها الموت، وإن فرض فيها من المحال أنها امتدت ألف عام، وكان عيشها كله رغداً من غير آلام‏.‏

ولما كان تسليم هذا لا يحتاج فيه إلى أكثر من العقل، قال مسبباً عنه منكراً عليهم مبكتاً لهم‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون *‏}‏ أي فيتبعوا الداعي إلى هذا السبيل الأقوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 111‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏110‏)‏ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

ولما كان المعنى معلوماً من هذا السياق تقديره‏:‏ فدعا الرجال المرسلون إلى الله واجتهدوا في إنذار قومهم لخلاصهم من الشقاء، وتوعدهم عن الله بأنواع العقوبات إن لم يتبعوهم، وطال عليهم الأمر وتراخى النصر وهم يكذبونهم في تلك الإيعادات ويبكتونهم ويستهزئون بهم، واستمر ذلك من حالهم وحالهم، قال مشيراً إلى ذلك‏:‏ ‏{‏حتى إذا استيئس الرسل‏}‏ أي يئسوا من النصر يأساً عظيماً كأنهم أوجدوه أو طلبوه واستجلبوه من أنفسهم ‏{‏وظنوا أنهم قد كذبوا‏}‏ أي فعلوا فعل اليأس العظيم اليأس الذي ظن أنه قد أخلف وعده من الإقبال على التحذير والتبشير والجواب- لمن استهزأ بهم وقال‏:‏ ما يحبس ما وعدتمونا به- بإن ذلك أمره إلى الله، إن شاء أنجزه، وإن شاء أخره، ليس علينا من أمره شيء؛ ويجوز أن يراد أنهم لمن استبطؤوا النصر وضجروا مما يقاسون من أذى الأعداء، واستبطاء الأولياء ‏{‏حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه‏}‏ كما يقول الآئس ‏{‏متى نصر الله‏}‏ مع علمهم بأن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء، عبر عن حالهم ذلك بما هنا- نقل الزمخشري في الكشاف والرازي في اللوامع معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، هذا على قراءة التخفيف، وأما على قراءة التشديد فالتقدير‏:‏ وظنوا أنهم قد كذبهم أتباعهم حتى لقد أنكرت عائشة رضي الله عنها قراءة التخفيف، روى البخاري في التفسير وغيره عن عروة بن الزبير أنه سألها عن القراءة‏:‏ أهي بالتشديد أم بالتخفيف‏؟‏ فقالت‏:‏ إنها بالتشديد، قال قلت‏:‏ فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن، قالت‏:‏ أجل، لعمري لقد استيقنوا بذلك‏!‏ فقلت لها‏:‏ وظنوا أنهم قد كذبوا أي بالتخفيف- قالت‏:‏ معاذ الله‏!‏ لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت‏:‏ فما هذه الآية‏؟‏ قالت‏:‏ هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أنهم أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك‏.‏ ‏{‏جاءهم نصرنا‏}‏ لهم بخذلان أعدائهم ‏{‏فنجي من نشاء‏}‏ منهم ومن أعدائهم ‏{‏ولا يرد بأسنا‏}‏ أي عذابنا لما له من العظمة ‏{‏عن القوم‏}‏ أي وإن كانوا في غاية القوة ‏{‏المجرمين *‏}‏ الذين حتمنا دوامهم على القطيعة كما قلنا ‏{‏ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم‏}‏ وحققنا بمن ذكرنا مصارعهم من الأمم، وكل ذلك إعلام بأن سنته جرت بأنه يطيل الامتحان، ويمد زمان الابتلاء والاعتبار، حثاً للأتباع على الصبر وزجراً للمكذبين عن التمادي في الاستهزاء‏.‏

ومادة «كذب» تدور على ما لا حقيقة له، وأكثر تصاريفها واضح في ذلك، ويستعمل في غير الإنسان، قالوا‏:‏ كذب البرق والحلم والرجاء والطمع والظن، وكذبت العين‏:‏ خانها حسها، وكذب الرأي‏:‏ تبين الأمر بخلاف ما هو به، وكذبته نفسه‏:‏ منته غير الحق، والكذوب‏:‏ النفس، لذلك، وأكذبت الناقة وكذبت- إذا ضربها الفحل فتشول أي ترفع ذنبها ثم ترجع حائلاً، لأنها أخلفت ظن حملها، وكذا إذا ظن بها لبن وليس بها، ويقال لمن يصاح به وهو ساكن يرى أنه نائم‏:‏ قد أكذب، أي عد ذلك الصياح عدماً، والمكذوبة من النساء‏:‏ الضعيفة، لأنه لما اجتمع فيها ضعف النساء وضعفها عدت عدماً، والمكذوبة على القلب‏:‏ المرأة الصالحة- كأنها لعزة الصلاح في النساء جعلت عدماً، وكذب الوحشي- إذا جرى ثم وقف ينظر ما وراءه، كأنه لم يصدق بالذي أنفره، ومنه كذب عن كذا- إذا أحجم عنه بعد أن أراده، أو لأنه كذب ما ظنه عند الحملة من قتل الأقران، وكذبك الحج أي أمكنك وكذبك الصيد مثله، وهو يؤول إلى الحث لأن المعنى أن الحج لعظم مشقته وطول شقته تنفر النفس عنه، فيكاد أن لا يوجد، وكذا الصيد لشدة فراره وسرعة نفاره وعزة استقراره يكاد أن لا يتمكن منه فيكون صيده كالكذب لا حقيقة له، فقد تبين حينئذ وجه كون «كذب» بمعنى الإغراء ولاح أن قوله «ثلاثة أسفار كذبن عليكم‏:‏ الحج والعمرة والجهاد» معناه أنها لشدة الصعوبة لا تكاد تمكن من أرادها منها، مع أنه- لقوة داعيته لكثرة ما يرى فيها من الترغيب بالأجر- يكون كالظافر بها، ويؤيده ما قال ابن الأثير في النهاية عن الأخفش‏:‏ الحج مرفوع ومعناه نصب، لأنه يريد أن يأمره بالحج كما يقال‏:‏ أمكنك الصيد، يريد‏:‏ ارمه، وقال أبو علي الفارسي في الحجة في قول عنترة‏:‏

كذب العتيق وماء شن بارد *** إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي

وإن شئت قلت‏:‏ إن الكلمة لما كثر استعمالها في الإغراء بالشيء والبعث على طلبه وإيجاده صار كأنه قال بقوله لها‏:‏ عليك العتيق، أي الزميه، ولا يريد نفيه ولكن إضرابها عما عداه، فيكون العتيق في المعنى مفعولاً به إن كان لفظه مرفوعاً، مثل «سلام عليكم» ونحوه مما يراد به الدعاء واللفظ على الرفع، وحكى محمد بن السري رحمه الله عن بعض أهل اللغة في «كذب العتيق» أن مضر تنصب به وأن اليمن ترفع به، وقد تقدم وجه ذلك- انتهى‏.‏ وأقرب من ذلك جداً وأسهل تناولاً وأخذاً أن الإنسان لا يزال منيع الجناب مصون الحجاب ما كان لازماً للصدق فإذا كذب فقد أمكن من نفسه وهان أمره، فمعنى «ثلاثة أسفار كذبن عليكم أمكنتكم من أنفسها، الحج كل سنة بزوال مانع الكفار عنه، والعمرة كل السنة بزوال المفسدين بالقتل وغيره في أشهر الحل، والجهاد كل السنة أيضاً لإباحته في الأشهر الحرم وغيرها، وتخريج مثل‏:‏ كذبتك الظهائر، وغيره على هذا بين الظهور ولا وقفة فيه ولكون الكاذب يبادر إلى المعاذير ويحاول التخلص كان التعبير بهذا من باب الإغراء، أي انتهز الفرصة وبادر تعسر هذا الإمكان‏.‏

ولما ذكر سبحانه هذه القصص كما كانت، وحث على الاعتبار بها بقوله‏:‏ ‏{‏أفلم يسيروا‏}‏ وأشار إلى أنه بذلك أجرى سنته وإن طال المدى، أتبعه الجزم بأن في أحاديثهم أعظم عبرة، فقال حثاً على تأملها والاستبصار بها‏:‏ ‏{‏لقد كان‏}‏ أي كوناً هو في غاية المكنة ‏{‏في قصصهم‏}‏ أي الخبر العظيم الذي تلي عليك تتبعاً لأخبار الرسل الذين طال بهم البلاء حتى استيأسوا من نوح إلى يوسف ومن بعده- على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام ‏{‏عبرة‏}‏ أي عظة عظيمة وذكرى شريفة ‏{‏لأولي الألباب‏}‏ أي لأهل العقول الخالصة من شوائب الكدر يعبرون بها إلى ما يسعدهم بعلم أن من قدر على ما قص من أمر يوسف عليه السلام وغيره قادر على أن يعز محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويعلي كلمته وينصره على من عاداه كائناً من كان كما فعل بيوسف وغيره- إلى غير مما ترشد إليه قصصهم من الحكم وتعود إليه من نفائس العبر؛ والقصص‏:‏ الخبر بما يتلو بعضه بعضاً، من قص الأثر، والألباب‏:‏ العقول، لأن العقل أنفس ما في الإنسان وأشرف‏.‏

ولما كان من أجل العبرة في ذلك القطع بحقية القرآن لما بينه من حقائق أحوالهم وخفايا أمورهم ودقائق أخبارهم على هذه الأساليب الباهرة والتفاصيل الظاهرة والمناهيج المعجزة القاهرة، نبه على ذلك بتقدير سؤال فقال‏:‏ ‏{‏ما كان‏}‏ أي هذا القرآن العربي المشتمل على قصصهم وغيره ‏{‏حديثاً يفترى‏}‏ كما قال المعاندون- على ما أشير إليه بقوله‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏، والافتراء‏:‏ القطع بالمعنى على خلاف ما هو به في الإخبار عنه، من‏:‏ فريت الأديم ‏{‏ولكن‏}‏ كان ‏{‏تصديق الذي‏}‏ كان من الكتب وغيرها ‏{‏بين يديه‏}‏ أي قبله الذي هو كاف في الشهادة بصدقه وحقيته في نفسه ‏{‏و‏}‏ زاد على ذلك بكونه ‏{‏تفصيل كل شيء‏}‏ أي يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا والآخرة؛ والتفصيل‏:‏ تفريق الجملة بإعطاء كل قسم حقه ‏{‏وهدى ورحمة‏}‏ وبياناً وإكراماً‏.‏ ولما كان الذي لا ينتفع بالشيء لا يتعلق بشيء منه، قال‏:‏ ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏ أي يقع الإيمان منهم وإن كان بمعنى‏:‏ يمكن إيمانهم، فهو عام، وما جمع هذه الخلال فهو أبين البيان، فقد انطبق هذا الآخر على أول السورة في أنه الكتاب المبين، وانطبق ما تبع هذه القصص- من الشهادة بحقية القرآن، وأن الرسل ليسوا ملائكة ولا معهم ملائكة للتصديق يظهرون للناس، وأنهم لم يسألوا على الإبلاغ أجراً- على سبب ما تبعته هذه القصص، وهو مضمون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 12‏]‏ الآية من قولهم ‏{‏لولا ألقي عليه كنز أو جاء معه ملك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 12‏]‏ وقولهم‏:‏ إنه افتراه، على ترتيب ذلك، مع اعتناق هذا الآخر لأول التي تليه، فسبحان من أنزله معجزاً باهراً، وقاضياً بالحق لا يزال ظاهراً، وكيف لا وهو العليم الحكيم- والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

سورة الرعد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏بسم الله‏}‏ الحق الذي كل ما عداه باطل ‏{‏الرحمن‏}‏ الذي عم بالرغبة والرهبة بعموم رحمته ‏{‏الرحيم‏}‏ الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الوهية ‏{‏المر‏}‏‏.‏

لما ختم التي قبلها بالدليل على حقية القرآن وأنه هدى ورحمة لقوم يؤمنون، بعد أن أشار إلى كثرة ما يحسونه من آياته في السماوات والأرض مع الإعراض، ابتدأ هذه بذلك على طريق اللف والنشر المشوش لأنه أفصح للبداءة في نشره بالأقرب فالأقرب فقال‏:‏ ‏{‏تلك‏}‏ أي الأنباء المتلوة والأقاصيص المجلوة المفصلة بدر المعاني وبديع الحكم وثابت القواعد والمباني العالية المراتب ‏{‏آيات‏}‏ والآية‏:‏ الدلالة العجيبة في التأدية إلى المعرفة ‏{‏الكتاب‏}‏ المنزل إليك ‏{‏و‏}‏ جميع ‏{‏الذي‏}‏‏.‏

ولما كان تحقق أن هذا الكتاب من عند الملك أمراً لا يطرقه مريه لما له من الإعجاز، وكذا ما تبعه من بيانه بالسنة لما له من الحق الذي لا يخف على كل عاقل، وكان ما تحقق أنه كذلك يعلم أن الآتي به لا يكون إلا عظيماً، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏أنزل إليك‏}‏ كائن ‏{‏من ربك‏}‏ فثبت حينئذ قطعاً أنه هو ‏{‏الحق‏}‏ أي الموضوع كل شيء منه في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة، الواضح الذي لا يتخلف شيء منه عن مطابقة الواقع من بعث ولا غيره، فهو أبعد شيء عن قولهم‏:‏ إن وعده بالبعث سحر، فوجب لثبوت حقيته على كل من اتصف بالعقل أن يؤمن به ‏{‏ولكن أكثر الناس‏}‏ أي الآنسين بأنفسهم المضطربين في آرائهم، ‏{‏لا يؤمنون *‏}‏ أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً بأنه الحق في نفسه وأنه من عند الله، بل يقولون‏:‏ إنه من عند محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنه تخييل ليست معاينة- كما قلنا ‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بؤمنين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 103‏]‏ فليس هدى لهم كاملاً ولا رحمة تامة، هذا التقدير محتمل، ولكن الذي يدل عليه ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 19‏]‏ أن ‏{‏الذي‏}‏ مبتدأ، و‏{‏من ربك‏}‏ صلة ‏{‏أنزل‏}‏ والخبر ‏{‏الحق‏}‏ والمقصود من هذه السورة هذه الآية، وهي وصف المنزل بأنه الحق وإقامة الدليل عليه، وذلك لأنه لما تم وصف الكتاب بأنه حكيم محكم مفصل مبين، عطف الكلام إلى تفصيل أول سورة البقرة، والإيماء إلى أنه حان اجتناء الثمرة في هذه السورة والتي بعدها، ويلتحم بذلك وصف المصدقين بذلك- كما ستقف عليه‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن زبير رحمه الله في برهانه‏:‏ هذه السورة تفصيل لمجمل قوله سبحانه في خاتمة سورة يوسف عليه السلام ‏{‏وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون * أفامنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون * قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين‏}‏

‏[‏يوسف‏:‏ 105-106-107-108‏]‏ فبيان آي السماوات في قوله ‏{‏الله الذي رفع السماوات بغير عند ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى‏}‏ وبيان آي الأرض في قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين‏}‏ فهذه آي السماوات والأرض، وقد زيدت بياناً في مواضع، ثم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يغشى الّيل النهار‏}‏ ما يكون من الآيات عنهن، لأن الظلمة عن جرم الأرض، والضياء عن نور الشمس وهي سماوية، ثم زاد تعالى آيات الأرض بياناً وتفصيلاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي الأرض قطع متجاورات‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 4‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لقوم يعقلون‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ولما كان إخراج الثمر بالماء النازل من السماء من أعظم آية، ودليلاً واضحاً على صحة المعاد، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى ‏{‏كذلك نخرج الموتى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏ وكان قد ورد هنا أعظم جهة في الاعتبار من إخراجها مختلفات في الطعوم والألوان والروائح مع اتحاد المادة «يسقى» بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل لذلك ما أعقب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي الأرض قطع متجاورات‏}‏ الآية بقوله ‏{‏وإن تعجب فعجب قولهم إذا كنا ترابا أئنّا لفي خلق جديد‏}‏ ثم بين سبحانه الصنف القائل بهذا وأنهم الكافرون أهل الخلود في النار، ثم أعقب ذلك ببيان عظيم حلمه وعفوه فقال ‏{‏ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 6‏]‏ الآية، ثم أتبع ذلك بما يشعر بالجري على السوابق في قوله ‏{‏إنما أنت منذر ولكل قوم هاد‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 7‏]‏ ثم بين عظيم ملكه واطلاعه على دقائق ما أوجده من جليل صنعه واقتداره فقال ‏{‏الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الأرحام‏}‏ الآيات إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما لكم من دونه من وال‏}‏ ثم خوف عباده وأنذرهم ورغبهم ‏{‏هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 12‏]‏، الآيات وكل ذلك راجع إلى ما أودع سبحانه في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات، وفي ذلك أكثر آي السورة ونبه تعالى على الآية الكبرى والمعجزة العظمى فقال‏:‏ ‏{‏ولو أن قراناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏ والمراد‏:‏ لكان هذا القرآن ‏{‏ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏ والتنبيه بعظيم هذه الآيات مناسب لمقتضى السورة من التنبيه بما أودع تعالى من الآيات في السماوات والأرض، وكأنه جل وتعالى لما بين لهم عظيم ما أودع من السماوات والأرض وما بينهما من الآيات وبسط ذلك وأوضحه، أردف ذلك بآية أخرى جامعة للآيات ومتسعة للاعتبارات فقال تعالى

‏{‏ولو أن قرآناً سيرت به الجبال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏ فهو من نحو ‏{‏إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 3‏]‏ أي لو فكرتم في آيات السماوات والأرض لأقلتكم وكفتكم في بيان الطريق إليه ولو فكرتم في أنفسكم وما أودع تعالى فيكم من العجائب لاكتفيتم «من عرف نفسه عرف ربه» فمن قبيل هذا الضرب من الاعتبار هو الواقع في سورة الرعد من بسط آيات السماوات والأرض، ثم ذكر القرآن وما يحتمل، فهذه إشارة إلى ما تضمنت هذه السورة الجليلة من بسط الآيات المودعة في الأرضين والسماوات‏.‏ وأما قوله تعالى ‏{‏وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏ فقد أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون إنما يتذكر أولوا الألباب‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله لا بذكر الله تطمئن القلوب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 28‏]‏ فالذين تطمئن قلوبهم بذكر الله هم أولو الألباب المتذكرون التامو الإيمان وهم القليل المشار إليهم في قوله تعالى ‏{‏وقليل ما هم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏ والمقول فيهم ‏{‏أولئك هم المؤمنون حقاً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 4‏]‏ ودون هؤلاء طوائف من المؤمنين ليسوا في درجاتهم ولا بلغوا يقينهم، وإليهم الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏ قال عليه الصلاة والسلام «الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل» فهذا بيان ما أجمل في قوله ‏{‏وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون‏}‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 107‏]‏ فما عجل لهم من ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله‏}‏ القاطع دابرهم، والمستأصل لأمرهم، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏ الآية، فقد أوضحت آي سورة الرعد سبيله عليه السلام بينه بما تحملته من عظيم التنبيه وبسط الدلائل بما في السماوات والأرض وما بينهما وما في العالم بجملته وما تحمله الكتاب المبين- كما تقدم، ثم قد تعرضت السورة لبيان جليّ سالكي تلك السبيل الواضحة المنجية فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 20‏]‏ إلى آخر ما حلاهم به أخذاً وتركاً، ثم عاد الكلام بعد إلى ما فيه من التنبيه والبسط وتقريع الكفار وتوبيخهم وتسليته عليه السلام في أمرهم ‏{‏إنما أنت منذر ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏، ‏{‏فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏ويقول الذين كفروا لست مرسلاً‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏، والسورة بجملتها غير حائدة عن تلك الأغراض المجملة في الآيات الأربع المذكورات من آخر سورة يوسف، ومعظم السورة وغالب آيها في التنبيه وبسط الدلالات والتذكير بعظيم ما أودعت من الآيات؛ ولما كان هذا شأنها أعقبت بمفتتح سورة إبراهيم عليه السلام- انتهى‏.‏

فلما أثبت سبحانه لهذا الكتاب أنه المختص بكونه حقاً فثبت أنه أعظم الأدلة والآيات، شرع يذكر ما أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏وكأين من آية‏}‏ من الآيات المحسوسة الظاهرة الدالة على كون آيات الكتاب حقاً بما لها في أنفسها من الثبات، والدلالة بما لفاعلها من القدرة والاختيار- على أنه قادر على كل شيء، وأن ما أخبر به من البعث حق لما له من الحكمة، والدالة- بما للتعبير عنها من الإعجاز- على كونها من عند الله، وبدأ بما بدأ به في تلك من آيات السماوات لشرفها ولأنها أدل، فقال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال وحده ‏{‏الذي رفع السماوات‏}‏ بعد إيجادها من عدم- كما أنتم بذلك مقرون؛ والرفع‏:‏ وضع الشيء في جهة العلو سواء كان بالنقل أو بالاختراع، كائنة ‏{‏بغير عمد‏}‏ جمع عماد كأهب وإهاب أو عمود، والعمود‏:‏ جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل، وأصله منع الميل ‏{‏ترونها‏}‏ أي مرئية حاملة لهذه الأجرام العظام التي مثلها لا تحمل في مجاري عاداتكم إلا بعد تناسبها في العظم، هذا على أن ‏{‏ترونها‏}‏ صفة، ويجوز- ولعله أحسن- أن يكون على تقدير سؤال من كأنه قال‏:‏ ما دليل أنها بغير عمد‏؟‏ فقيل‏:‏ المشاهدة التي لا أجلى منها‏.‏

ولما كان رفع السماوات بعد خلق الأرض وقبل تسويتها، ذكر أنه شرع في تدبير ما للكونين من المنافع وما فيهما من الأعراض والجواهر، وأشار إلى عظمة ذلك التدبير بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ قال الرازي في لوامع البرهان‏:‏ وخص العرش لأنه أعلى خلقه وصفوته ومنظره الأعلى وموضع تسبيحه ومظهر ملكه ومبدأ وحيه ومحل قربه، ولم ينسب شيئاً من خلقه كنسبته، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذو العرش‏}‏ كما قال ‏{‏ذو الجلال‏}‏ و«ذو» كلمة لحق واتصال وظهور ومبدأ، وقال الرماني‏:‏ والاستواء‏:‏ الاستيلاء بالاقتدار ونفوذ السلطان، وأصله‏:‏ استوى التدبير، كما أن أصل القيام الانتصاب، ثم يقال‏:‏ قائم بالتدبير- انتهى‏.‏ وعبر ب «ثم» لبعد هذه الرتبة عن الأطماع وعلوها عما يستطاع، فليس هناك ترتيب ولا مهلة حتى يفهم أن ما قبل كان على غير ذلك، والمراد أنه أخذ في التدبير لما خلق كما هو شأن الملوك إذا استووا على عروشهم، أي لم يكن لهم مدافع، وإن لم يكن هناك جلوس أصلاً، وذلك لأن روح الملك التدبير وهو أعدل أحواله والله أعلم ‏{‏وسخر‏}‏ أي ذلل تذليلاً عظيماً ‏{‏الشمس‏}‏ أي التي هي آية النهار ‏{‏والقمر‏}‏ أي الذي هو آية الليل لما فيهما من الحكم والمنافع والمصالح التي بها صلاح البلاد والعباد، ودخلت اللام فيهما وكل واحد منهما لا ثاني له لما في الاسم من معنى الصفة، إذا لو وجد مثل لهما لم يتوقف في إطلاق الاسم عليه، ولا كذلك زيد وعمرو‏.‏ والتسخير‏:‏ التهيئة لذلك المعنى المسخر له ليكون بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج إليه كتسخير النار للإنضاج والماء للجريان ‏{‏كل‏}‏ أي من الكوكبين ‏{‏يجري‏}‏‏.‏

ولما كان السياق للتدبير، علم أن المراد بجريهما لذلك، وهو تنقلهما في المنازل والدرجات التي يتحول بها الفصول، ويتغير النبات وتضبط الأوقات، وكلما كان التدبير أسرع، علم أن صاحبه أعلم ولا سيما إن كان أحكم، فكان الموضع للام لا لإلى، فعلل بقوله‏:‏ ‏{‏لأجل‏}‏ أي لأجل اختصاصه بأجل ‏{‏مسمى‏}‏ هذي أجلها سنة، وذاك أجله شهر؛ والأجل‏:‏ الوقت المضروب لحدوث أمر وانقطاعه‏.‏

ولما كان كل من ذلك مشتملاً من الآيات على ما يجل عن الحصر مع كونه في غاية الإحكام، استأنف خبراً هو كالتنبيه على ما فيما مضى من الحكمة، فقال مبيناً للاستواء على العرش بعد أن أشار إلى عظمة هذا الخبر بما في صلة الموصول من الأوصاف العظيمة‏:‏ ‏{‏يدبر الأمر‏}‏ أي في المعاش والمعاد وما ينظمهما بأن يفعل فيه فعل من ينظر في أدباره وعواقبه ليأتي محكماً يجل عن أن يرام بنقض، بل هو بالحقيقة الذي يعلم أدبار الأمور وعواقبها، لا يشغله شأن عن شأن، مع أن هذا العالم- من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى- محتو عل أجناس وأنواع وفصول وأصناف وأشخاص لا يحيط بها سواه، وذلك دال قطعاً على أنه سبحانه في ذاته وصفاته متعال عن مشابهة المحدثات واحد أحد صمد ليس له كفواً أحد‏.‏

ولما كان هذا بياناً عظيماً لا لبس فيه، قال ‏{‏يفصل الآيات‏}‏ أي التي برز إلى الوجود تدبيرها، الدالة على وحدانيته وكمال حكمته، المشتملة عليها مبدعاته، فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها، تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم، لتعلموا أنها فعل الواحد المختار، لا فعل الطبائع ولا غيرها من الأسباب التي أبدعها، وإلا فكانت على نسق واحد، وجمعها لما تقدم من الإشارة إلى كثرتها بقوله‏:‏ ‏{‏وكأين من آية في السماوات والأرض‏}‏ فكأن هذه الألف واللام لذلك المنكر هناك‏.‏

ولما كان التدبير وهذا التفصيل دالاًّ على تمام القدرة وغاية الحكمة، وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة، علل بقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم بلقاء ربكم‏}‏ أي لتكون حالكم حال من يرجى له بما ينظر من الدلالات الإيقان بلقاء الموجد له المحسن إليه بجميع ما يحتاجه التربية ‏{‏توقنون *‏}‏ أي تعلمون ذلك من غير شك استدلالاً بالقدرة على ابتداء الخلق على القدرة على ما جرت العادة بأنه أهون من الابتداء وهو الإعادة، وأنه لا تتم الحكمة إلا بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

ولما انقضى ما أراد من آيات السماوات، ثنى بما فيما ثنى به في آية يوسف من الدلالات فقال‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏الذي مد الأرض‏}‏ ولو شاء لجعلها كالجدار أو الأزج لا يستطاع القرار عليها، وهذا لا ينافي أن تكون كرية، لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح، كما أن الجبال أوتاد والحيوان يستقر عليها ‏{‏وجعل فيها‏}‏ جبالاً مع شهوقها ‏{‏رواسي‏}‏ أي ثوابت، واحدها راسية أي ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن أماكنها لا تتحرك، فلا يتحرك ما هي راسية فيه‏.‏ ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي، صارت الصفة تغني عن الموصوف فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل- قاله أبو حيان، ولما كانت طبيعة الأرض واحدة كان حصول الجبل في جانب منها دون آخر ووجود المعادن المتخالفة فيها تارة جوهرية، وتارة خامية، وتارة نفطية، وتارة كبريتية- إلى غير ذلك، دليلاً على اختصاصه تعالى بتمام القدرة والاختيار لأن الجبل واحد في الطبع كما أن تأثير الشمس واحد، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنهاراً‏}‏ أي وجعل فيها خارجة منها، وأكثر ما تكون الأنهار من الجبال، لأنها أجسام صلبة عالية، وفي خلال الأرض أبخرة فتصاعد تلك الأبخرة المتكونة في قعر الأرض، ولا تزال تخرق حتى تصل إليها فتحتبس بها فلا تزال تتكامل حتى يعظم تكاثفها، فإذا بردت صارت ماء فيحصل بسببها مياه كثيرة كما تنعقد الأبخرة البخارية المتكاثفة في أعالي الحمامات إذا بردت وتتقاطر، فإذا تكامل انعقاد تلك المياه وعظمت شقت أسافل الجبال أو غيرها من الأماكن التي تستضعفها لقوتها وقوة الأبخرة المصاحبة لها، فإن كان لتلك المياه مدد من جهة الفواعل والقوابل بحيث كلما نبع منها شيء حدث عقيبه شيء، وهكذا على الاتصال فهي النهر، والنهر‏:‏ المجرى الواسع من مجاري الماء، وأصله الاتساع، ومنه النهار- لاتساع ضيائه‏.‏

ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عن المياه فقال‏:‏ ‏{‏ومن كل الثمرات‏}‏ ويجوز أن يكون متعلقاً بما قبله، ثم يكون كأنه قيل‏:‏ من ينتفع بهذه الأشياء‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏جعل فيها‏}‏ أي الأرض ‏{‏زوجين اثنين‏}‏ ذكراً وأنثى من كل صنف من الحيوان ينتفع بها، ويجوز أن يكون متعلقاً بما بعده فيكون التقدير‏:‏ وجعل فيها من كل الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى تنتفع الأنثى بلقاحها من الذكر أو قربه منها فيجود ثمرها؛ والثمرة طعمة الشجرة، والزوج‏:‏ شكل له قرين من نظير أو نقيض، فكأنه قيل‏:‏ ما الذي ينضجها‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏يغشي اليل النهار‏}‏ أي والنهار الليل، فينضج هذا بحره ويمسك هذا ببرده، فيعتدل فعلهما على ما قدره تعالى لهما في السير من الزيادة والنقصان للحر والبرد للإخراج والإنضاج إلى غير ذلك من الحكم النافعة في الدين والدنيا الظاهر لكل ذي عقل أنها بتدبيره بفعله واختياره وقهره واقتداره‏.‏

ولما ساق سبحانه هذه الآيات مفصلة إلى أربع وكان فيها دقة، جمعها وناطها بالفكر فقال‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الذي وقع التحديث عنه من الآيات متعاطفاً ‏{‏لآيات‏}‏ أي دلالات واضحات عجيبات باهرات على أن ذلك كله مستند إلى قدرته واختياره، ونبه على أن المقام يحتاج إلى تعب بتجريد النفس من الهوى وتحكيم العقل صرفاً بقوله‏:‏ ‏{‏لقوم‏}‏ أي ذوي قوة زائدة على القيام فيما يحاولونه ‏{‏يتفكرون *‏}‏ أي يجتهدون في الفكر، قال الرماني‏:‏ وهو تصرف القلب في طلب المعنى، ومبدأ ذلك معنى يُخطره الله تعالى على بال الإنسان فيطلب متعلقاته التي فيها بيان عنه من كل وجه يمكن فيه، والختم بالتفكر إشارة إلى الاهتمام بإعطاء المقام حقه في الرد على الفلاسفة، فإنهم يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية، وهو كلام ساقط لمن تفكر فيما قرره سبحانه في الآية السالفة من إسقاط وروده من أنه سبحانه هو الذي أوجد الأشياء كلها من عدم ثم أخذ في تدبيرها، فاختصاص كل شيء من الأجرام العلوية بطبع وصفة وخاصية إنما هو بتخصيص المدبر الحكيم الفاعل بالاختيار، فصار وجود الحوادث السفلية لو سلم أنه متأثر عن الحوادث العلوية إنما يكون مستنداً إليها باعتبار السببية، والسبب والمسبب مستند إلى الصانع القديم المدبر الحكيم‏.‏

ولما كان الدليل- مع وضوحه- فيه بعض غموض، شرع تعالى في شيء من تفصيل ما في الأرض من الآيات التي هي أبين من ذلك دليلاً ظاهراً جداً على إبطال قول الفلاسفة، فقال‏:‏ ‏{‏وفي الأرض‏}‏ أي التي أنتم سكانها، تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك ‏{‏قطع متجاورات‏}‏ فهي متحدة البقعة مختلفة الطبع، طيبة إلى سبخة، وكريمة إلى زهيدة، وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر وعكسها، ومع انتظام الكل في الأرضية ‏{‏وجنات‏}‏ جمع جنة، وهي البستان الذي تجنه الأشجار ‏{‏من أعناب‏}‏ وكأنه قدمها لأن أصنافها- الشاهدة بأن صانعها إنما هو الفعال لما يريد- لا تكاد تحصر حتى أنه في الأصل الواحد يحصل تنوع الثمرة ولذلك جمعها‏.‏

ولما كان تفاوت ما أصله الحب أعجب، قال‏:‏ ‏{‏وزرع‏}‏ أي منفرداً- في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالرفع، وفي خلل الجنات- في قراءة الباقين بالجر‏.‏

ولما كان ما جمعه أصل واحد ظاهر أغرب أخر قوله‏:‏ ‏{‏ونخيل صنوان‏}‏ فروع متفرقة على أصل واحد ‏{‏وغير صنوان‏}‏ باعتبار افتراق منابتها وأصولها؛ قال أبو حيان‏:‏ والصنو‏:‏ الفرع يجمعه وآخر أصل واحد، وأصله المثل، ومنه قيل للعم‏:‏ صنو وقال الرماني‏:‏ والصنوان‏:‏ المتلاصق، يقال‏:‏ هو ابن أخيه صنو أبيه أي لصيق أبيه في ولادته، وهو جمع صنو، وقيل‏:‏ الصنوان‏:‏ النخلات التي أصلها واحد- عن البراء بن عازب وابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم؛ وقال الحسن رضي الله عنه‏:‏ الصنوان‏:‏ النخلتان أصلهما واحد- انتهى‏.‏

وهو تركيب لا فرق بين مثناه وجمعه إلا بكسر النون من غير تنوين وإعرابها مع التنوين، وسيأتي في يس إن شاء الله تعالى سر تسمية الكرم بالعنب‏.‏

ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم، وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الموجد المسبب، لا إلى شيء من الأسباب، قال‏:‏ ‏{‏ويسقى‏}‏ أي أرضها الواحدة كلها ‏{‏بماء واحد‏}‏ فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا يتأخر عنه ولا يتقدم بعد أن يتصعد الماء فيها علوّاً ضد ما في طبعه من التسفل، ثم يتفرق في كل من الورق والأغصان والثمار بقسطه مما فيه صلاحه ‏{‏ونفضل‏}‏ أي بما لنا من العظمة المقتضية للطاعة ‏{‏بعضها‏}‏ أي بعض تلك الجنات وبعض أشجارها ‏{‏على بعض‏}‏ ولما كان التفضيل على أنحاء مختلفة، بين المراد بقوله‏:‏ ‏{‏في الأكل‏}‏ أي الثمر المأكول، ويخالف في المطعوم مع اتحاد الأرض وبعض الأصول، وخص الأكل لأنه أغلب وجوه الانتفاع، وهو منبه على اختلاف غيره من الليف والسعف واللون للمأكول والطعم والطبع والشكل والرائحة والمنفعة وغيرها مع أن نسبة الطبائع والاتصالات الفلكية إلى جميع الثمار على حد سواء لا سيما إذا رأيت العنقود الواحد جميع حباته حلوة نضيجة كبيرة إلا واحدة فإنها حامضة صغيرة يابسة‏.‏

ولما كان المراد في هذا السياق- كما تقدم- تفصيل ما نبه على كثرته بقوله‏:‏ ‏{‏وكأين من آية في السماوات والأرض‏}‏ الآية، قال‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم الذي تقدم ‏{‏لآيات‏}‏ بصيغة الجمع فإنها بالنظر إلى تفصيلها بالعطف جمع وإن كانت بالنظر إلى الماء مفردة، وهذا بخلاف ما يأتي في النحل لأن المحدث عنه هناك الماء، وهنا ما ينشأ عنه، فلما اختلف المحدث عنه كان الحديث بحسبه، فالمعنى‏:‏ دلالات واضحات على أن ذلك كله فعل واحد مختار عليم قادر على ما يريد من ابتداء الخلق ثم تنويعه بعد إبداعه، فهو قادر على إعادته بطريق الأولى‏.‏

ولما كانت هذه المفصلة أظهر من تلك المجملة، فكانت من الوضوح بحال لا يحتاج ناظره في الاعتبار به إلى غير العقل، قال‏:‏ ‏{‏لقوم‏}‏ أي ذوي قوة على ما يحاولونه ‏{‏يعقلون‏}‏ فإنه لا يمكن التعبير في وجه هذه الدلالة إلا بأن يقال هذه الحوادث السفلية حدثت بغير محدث، فيقال للقائل‏:‏ وأنت لا عقل لك، لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث ضرورة، فعدم العلم بالضروري يستلزم عدم العقل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏5‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

ولما ثبت قطعاً بما أقام من الدليل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه أن هذا إنما هو فعل واحد قهار مختار يوجد المعدوم ويفاوت بين ما تقتضي الطبائع اتحاده، كان إنكار شيء من قدرته عجباً، فقال عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏ مشيراً إلى أنهم يقولون‏:‏ إن الوعد بالبعث سحر لا حقيقة له ‏{‏* إن تعجب‏}‏ أي يوماً من الأيام أو ساعة من الدهر فاعجب من إنكارهم البعث ‏{‏فعجب‏}‏ عظيم لا تتناهى درجاته في العظم ‏{‏قولهم‏}‏ بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والدلالات الناطقة بعظيم القدرة على كل شيء منكرين‏:‏ ‏{‏إذا كنا تراباً‏}‏ واختلط التراب الذي تحولنا إليه بالتراب الأصلي فصار لا يتميز، ثم كرروا التعجب والإنكار بالاستفهام ثانياً فقالوا‏:‏ ‏{‏إنا لفي خلق جديد‏}‏ هذا قولهم بعد أن فصلنا من الآيات ما يوجب أنهم بلقاء ربهم يوقنون، وهذا الاستفهام الثاني مفسر لما نصب الأول بما فيه من معنى ‏{‏أنبعث‏}‏، والعجب‏:‏ تغير النفس بما خفي سببه عن العادة، والجديد‏:‏ المهيا بالقطع إلى التكوين قبل التصريف في الأعمال، وأصل الصفة القطع؛ قال الرماني‏:‏ وقد قيل‏:‏ لا خير فيمن لا يتعجب من العجب، وأرذل منه من يتعجب من غير عجب- انتهى، يعني‏:‏ فالكفار تعجبوا من غير عجب‏:‏ ومن تعجبهم فقد تعجب من العجب‏.‏

ولما كان هذا إنكار المحسوس من القدرة، استحقوا ما يستحق من يطعن في ملك الملك، فقال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي الذين جمعوا أنواعاً من البعد مع كل خير ‏{‏الذين كفروا بربهم‏}‏ أي غطوا كل ما يجب إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم ثم رباهم بأنواع اللطف، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا مبدأهم ‏{‏وأولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏الأغلال‏}‏ أي الحدائد التي تجمع أيدي الأسرى إلى أعناقهم، ويقال لها‏:‏ جوامع، وتارة تكون في الأعناق فقط يعذب بها الناس؛ ولما كان طرفا العنق غليظين، فلا تكون إحاطة الجامعة منها إذا كانت ضيقة إلا بالوسط، جعل الأعناق ظروفاً باعتبار أنها على بعض منها، وذلك كناية عن ضيقها، فقال‏:‏ ‏{‏في أعناقهم‏}‏ أي بكفرهم وإن لم تكن الأغلال مشاهدة الآن، فهي لقدرة المهدد بها على الفعل كأنها موجودة، وهم منقادون لما قدر عليهم من أسبابها كما يقاد المغلول بها إلى ما يريد قائده، والغل‏:‏ طوق تقيد به اليد في العنق، وأصله‏:‏ انغل في الشيء- إذا انتشب فيه، وغل المال- إذا خان بانتشابه في المال الحرام ‏{‏وأولئك‏}‏ أي الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم ‏{‏أصحاب النار‏}‏‏.‏ ولما كانت الصحبة تقتضي الملازمة، صرح بها فقال‏:‏ ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏فيها‏}‏ أي متمحضة لا يخلطها نعيم ‏{‏خالدون *‏}‏ أي ثابت خلودهم دائماً‏.‏

ولما تضمنت هذه الآية إثبات القدرة التامة مع ما سبق من أدلتها المحسوسة المشاهدة، كان أيضاً من العجب العجيب والنبأ الغريب استهزاءهم بها، فقال معجباً منهم‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك‏}‏ أي استهزاء وتكذيباً؛ والاستعجال‏:‏ طلب التعجيل، وهو تقديم الشيء قبل وقته الذي يقدر له ‏{‏بالسيئة‏}‏ من العذاب المتوعد به من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جرأة منهم تشير إلى أنهم لا يبالون بشيء منه ولا يوهن قولهم شيء ‏{‏قبل الحسنة‏}‏ من الخير الذي تبشرهم به ‏{‏و‏}‏ الحال أنه ‏{‏قد خلت‏}‏ ولما كان المحدث عنه إنما كان في بعض الزمان، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلهم المثلات‏}‏ جمع مثله بفتح الميم وضم المثلثة كصدقة وصدقات، سميت بذلك لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، وهي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله من الأمم الذين اتصلت بهم أخبارهم، وخاطبتهم بعظيم ما اتفق لهم آثارهم وديارهم، وما يؤخرهم الله إلا لاستيفاء آجالهم التي ضربها لهم مع قدرته التامة عليهم‏.‏

ولما كانوا ربما قالوا‏:‏ ما نرى إلا تهديداً لا يتحقق شيء منه‏:‏ قال مؤكداً لإنكارهم واعتقادهم أن المسار والمضار إنما هي عادة الدهر، عطفاً على ما تقديره‏:‏ فإن ربك حليم لا يخاف الفوت فلا يستعجل في الأخذ‏:‏ ‏{‏وإن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بجعلك نبي الرحمة ‏{‏لذو مغفرة‏}‏ أي عظيمة ثابتة ‏{‏للناس‏}‏ حال كونهم ظالمين متمكنين في الظلم مستقلين ‏{‏على ظلمهم‏}‏ وهو إيقاعهم الأشياء في غير مواضعها، فلا يؤاخذهم بجميع ماكسبوا ‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 61‏]‏ فلذلك يقيم الناس دهراً طويلاً يكفرون ولا يعاقبون حلماً منه سبحانه، والآية مقيدة بآية النساء ‏{‏ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ وإن لم يكن توبة، فإن التائب ليس على ظلمه‏.‏

ولما كان يمهل سبحانه ولا يهمل وذكر إمهاله، ذكر أخذه مؤكداً لمثل ما مضى فقال‏:‏ ‏{‏وإن ربك‏}‏ أي الموجد لك المدبر لأمرك بغاية الإحسان ‏{‏لشديد العقاب *‏}‏ للكفار ولمن شاء من غيرهم، فلذلك يأخذ أخذ عزيز مقتدر إذا جاء الأجل الذي قدره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ‏(‏7‏)‏ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ‏(‏8‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ولما بين سبحانه أنهم غطوا آيات ربهم المتفضل عليهم بتلك الآيات وغيرها، عجب منهم عجباً آخر في طلبهم إنزال الآيات مع كونها متساوية الأقدام في الدلالة على الصانع وما له من صفات الكمال، فلما كفروا بما أتاهم كانوا جديرين بالكفر بما يأتيهم فقال‏:‏ ‏{‏ويقول‏}‏ أي على سبيل الاستمرار ‏{‏الذين كفروا‏}‏ استهزاء بالقدرة ‏{‏لولا‏}‏ أي هلا ولم لا ‏{‏أنزل‏}‏ أي بإنزال أيّ كائن كان ‏{‏عليه آية‏}‏ جاحدين عناداً لما أتاه من الآيات ‏{‏من ربه‏}‏ أي المحسن إليه تصديقاً له‏.‏

ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم راغباً في إجابة مقترحاتهم لشدة التفاته إلى أيمانهم، كان كأنه سأل في ذلك لتحصل لهم النجاة، فأجيب بقوله تعالى- مقدماً ما السياق أولى به لأنه لبيان أن الأكثر لا يؤمن-‏:‏ ‏{‏إنما أنت منذر‏}‏ أي نبي منذر هاد لهم تهديهم ببيان ما أنزله عليك مما يوقع في الهلاك أو يوصل إلى النجاة، سائر فيهم على حسب ما أحدّه لك، وأصل الإنذار الإعلام بموضع المخافة ليتقى، لا أنك مثبت للإيمان في الصدور ‏{‏ولكل قوم‏}‏ ممن أرسلنا إليهم نبي ‏{‏هاد *‏}‏ أي داع يهديهم إلى مراشدهم ومنذر ينذرهم من مغاويهم، أي يبين لهم ما أرسلنا به من النذارة والبشارة، وأعطى كل منذر وهاد آيات تليق به وبقومه على مثلها يؤمن البشر، فيهدي الله من يعلم فيه قابلية الهدى بما نصب من الآيات المشاهدات، فلا يحتاج إلى شيء من المقترحات، ويضل من يعلم فيه دواعي الضلال ولو جاءته كل آية، لأنه الذي جبلهم على طبائع الخير والشر ‏{‏ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير‏}‏ ‏[‏تبارك‏:‏ 14‏]‏ فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من أمة إلا خلا فيها نذير‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 24‏]‏ وكقوله في هذه السورة ‏{‏ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب‏}‏ والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر المنذر أولاً يدل على حذفه ثانياً، وذكر الهاد ثانياً دال على حذف مثله أولاً‏.‏

ولما كان ما مضى مترتباً على العلم والقدرة ولا سيما ختم هذه الآية بهاد، وكان إنكارهم البعث إنكاراً للنشأة الأولى، وكان سبحانه وتعالى يعلم أن إجابتهم إلى ما اقترحوا غير نافع لهم، لأنهم متعنتون لا مسترشدون، شرع سبحانه- بعد الإعراض عن إجابة مقترحاتهم- يقرر من أفعاله المحسوسة لهم المقتضية لاتصافه من العلم والقدرة بما هو كالإعادة سواء إشارة منه تعالى إلى أن إنكار البعث إن كان لاستحالة الإعادة فهي مثل البداءة، وإن كان لاستحالة تمييز التراب الذي كان منه الحيوان- بعد اختلاطه بغيره وتفرق أجزائه- فتمييز الماء الذي يكون منه الولد من الماء الذي لا يصلح لذلك أعجب، لأن الماء أشد اختلاطاً وأخفى امتزاجاً، ومع ذلك فهو يعلمه فقال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة ‏{‏يعلم‏}‏ أي علماً قديماً في الأزل بما سيوجد وعلماً يتجدد تعلقه بحسب حدوث الحادثات على الاستمرار ‏{‏ما تحمل‏}‏ أي الذي تحمله في رحمها ‏{‏كل أنثى‏}‏ أي الماء الذي يصلح لأن يكون حملاً ‏{‏وما تغيض‏}‏ أي تنقص ‏{‏الأرحام‏}‏ من الماء فتنشفه فيضمحل لعدم صلاحيته لأن يكون منه ولد، وأصل الغيض- كما قال الرماني‏:‏ ذهاب المائع في العمق الغامض، وفعله متعد لازم ‏{‏وما تزداد‏}‏ أي الأرحام من الماء على الماء الذي قدر تعالى كونه حملاً فيكون توأماً فأكثر في جماع آخر بعد حمل الأول كما صرح بإمكان ذلك ابن سينا وغيره من الأطباء، وولدت في زماننا أتان حماراً وبغلاً، وذلك لأن الزيادة ضم شيء إلى المقدار وكثرته شيئاً بعد شيء فيقدر ذلك، ولا يمكن أحداً زيادته ولا نقصانه، وذلك كله يستلزم الحكمة فلذا ختمه بقوله‏:‏ ‏{‏وكل شيء‏}‏ أي من هذا وغيره من الآيات المقترحات وغيرها ‏{‏عنده‏}‏ أي في قدرته وعلمه ‏{‏بمقدار *‏}‏ في كيفيته وكميته لا يتجاوزه ولا تقصر عنه، لأنه عالم بكيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات وهو قادر على ما يريد منها، فالآية بيان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كفروا بربهم‏}‏ من حيث بين فيها تربيته لهم على الوجه الذي هم له مشاهدون وبه معترفون‏.‏

ولما كان هذا عيباً وكان علمه مستلزماً لعلم الشهادة، وكان للتصريح مزية لا تخفى، صرح به على وجه كلي يعم تلك الجزيئات وغيرها فقال‏:‏ ‏{‏عالم الغيب‏}‏ وهو ما غاب عن كل مخلوق ‏{‏والشهادة‏}‏ قال الرماني‏:‏ الغيب‏:‏ كون الشيء بحيث يخفى عن الحس، والشهادة‏:‏ كونه بحيث يظهر له‏.‏

ولما كان العلم والحكمة لا يتمان إلا بكمال القدرة والعظمة قال‏:‏ ‏{‏الكبير‏}‏ أي الذي يتضاءل عنده كل ما فيه صفات تقتضي الكبر، قال الإمام أبو الحسن الحرالي‏:‏ والكبر‏:‏ ظهور التفاوت في ظاهر وباهر القدر الذي لا يحتاج إلى فكر، ولذلك كان فطرة للخلق أن الله أكبر، ولما كان لا ظاهر قدر للخلق لما عليهم من بادي الضروريات والحاجات المعلنة بصغير بالقدر، ومن حاول منهم أن يكبر بسطوة أو تسلط وفساد زاد صغار قدره بما اكتسب في أعين أرباب البصائر في الدنيا، ويبدو ذلك منه لعيون جميع الخلق في الأخرى «يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذي يطؤهم الناس بأقدامهم» فلذلك اختصاص معنى أنه لا كبير إلا الله- انتهى‏.‏ ‏{‏المتعال *‏}‏ أي الذي لا يدنو- من أوج علوه في ذات أو صفة أو فعل- عالٍ، وأخرجه مخرج التفاعل ليكون أدل على المعنى وأبلغ فيه؛ وقال أبو الحسن الحرالي رحمه الله‏:‏ والتعالي‏:‏ فوت التناول والمنال بحكم أو حجة، وأشعر التفاعل بما يجري من توهم المحتجين في أمره بأوهام حجج داحضة ‏{‏حجتهم داحضة عند ربهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 16‏]‏ فهو تعالى يأذن في الاحتجاج والجدال ثم يتعالى بما له من الحجة البالغة ‏{‏قل فلله الحجة البالغة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 149‏]‏ فهو المتعالي علماً وحكماً وحجة، وحقيقة المتعالي الذي لا يتعالى إلا هو- انتهى‏.‏ والحاصل أنه لما وصف نفسه مما تقدم، أشار إلى أن ذلك على ما تحتمله العقول وأن الحق في وصفه الكبر المطلق والتعالي المطلق، لأن العقول لا تحتمل أكثر من ذلك‏.‏